محمد تركي الربيعو

أتيح للقارئ العربي في العقدين الأخيرين الاطلاع على عدد من الكتب حول التاريخ الثقافي والاجتماعي للقهوة في البلدان العربية. وفي هذا التاريخ بدأنا نكتشف أن دخول هذا المشروب لعالمنا لم يكن بالأمر السهل. ويوضح المؤرخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط في كتابه «من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي» أن مدينة مثل دمشق، عاشت صراعات كبيرة بين العلماء والعامة والسلطة السياسية في القرن السادس عشر حول المقاهي، وهي صراعات ظلت تعود وتشتعل في المدينة لعقود طويلة.
كما أن سيرة القهوة كشفت لنا أن زيارة المقاهي بقيت في الرؤية الشعبية أمرا غير محبذ ومكروه، واقتصرت في مدينة مثل جدة، كما يذهب لذلك سعد السريحي، في ذكرياته عن المقاهي على فئات محددة. وبموازاة هذه الكتابات الشيقة عن عالم القهوة والمقاهي العربية، يمكن الإشارة إلى كتاب «حبوب البن الساحرة» وصدر بالإنكليزية بعنوان «تاريخ قصير للقهوة».. مؤلفه هو الكاتب الإسكتلندي غوردن كي، وهو متخصص في كتابة التواريخ القصيرة، ومن يطلع على كتابه عن القهوة، يلاحظ أنه أمام مؤرخ يكشف في الهوامش عن مصادر جديدة لتواريخه.
يبحث الكتاب في أصول القهوة في إثيوبيا واليمن، وانتشارها في الشرق الأوسط، قبل أن ينقلها الرحالة والتجار وينشروها في أوروبا. وقد تتبع تطور هذه الظاهرة ونمو شعبيتها حتى انفجار ثقافة المقاهي في القرن الحادي والعشرين. يذكر المؤلف أن أول مالكين للمقاهي في إسطنبول كانا سوريين، أحدهما دمشقي يدعى شمسي، والآخر حلبي يدعى حكيم، وقد افتتحا مقهييهما في أزقة ايمنونو. وسرعان ما أصبحت القهوة مشهورة بين أفراد المجتمع، حتى إن السلطان كان لديه مختصون (قهوجيون) بتحضير قهوته وتقديمها إليه. احتفظت القهوة بدلالات دينية لعدة قرون، حتى عندما أصبحت أكثر علمانية، وصار الناس يشربونها بشكل متزايد من أجل المتعة والترفيه. الجديد في هذا الكتاب، أنه يقدم تصوراً وتتبعا تاريخا فريدا وممتعا لبدء انتشار القهوة في أوروبا وأمريكا. وهنا نكتشف أننا أمام تواريخ اجتماعية وثقافية غنية ومجهولة، أخذت تنمو إلى جانب القهوة وتؤثر وتتأثر بها. كان الطبيب وعالم النبات الألماني ليونارد راوولف 1535-96 أول أوروبي يكتب في رحلاته للشرق عن مشروب القهوة، ومما يذكره عن مشروب القهوة أنه « أسود بلون الحبر، ومفيد جدا في علاج العديد من الأمراض خاصة أمراض المعدة».
وجاء التطور الأهم في هذا الجانب في إيطاليا، إذ لم يمضِ وقت طويل حتى أصبح كل متجر في البندقية عبارة عن مقهى، وقد رحبت مقاهي البندقية بالجميع، بغض النظر عن الطبقة التي ينتمي إليها، وعندما وصلت القهوة إلى روما، أحدثت ضجة بين القساوسة الروم الكاثوليك، الذين طالبوا بحظرها بوصفها اختراع الشيطان، وأصروا على أن النبي محمد سمح لأتباعه بشرب القهوة بعد منعهم من شرب الخمر. رفض البابا كليمنت الثامن 1535-1605 هذه القراءة، واعتبر أن شراب «هذا الشيطان لذيذ جدا إلى درجة أنه سيكون من المؤسف السماح للكفار حصرا باستخدامه».
في فرنسا أيضا، نرى جان جاك روسو 1712-1778 يصل إلى المقهى قبل انتهائه من كتابة مسرحيته الهزلية (نارسيس) لتناول القهوة، وكان نابليون بونابرت ضابط المدفعية قد بدأ بالتردد على المقهى، ويقال إنه ترك قبعته ذات مرة مقابل فاتورة قهوة غير مدفوعة.

يوميات في مقاهي لندن

أهم فصول الكتاب المعنون بـ«المراجع البريطانية المبكرة للقهوة» إذ نعثر في هذا الفصل على بدايات تشكل القهوة وظهورها في القرن السابع عشر في بريطانيا. تكشف لنا بعض المصادر أن أول مقهى افتتح في عام 1651، وقد افتتحه رجل أعمال يهودي لبناني يدعى يعقوب وسماه «أنجل» عند تقاطع كوينز لين وذا هاي في أكسفورد، ولاحقا قام بنقلها إلى مباني ساوثهامبتون القديمة في لندن، خاصة بعد أن بدأت القهوة تحظى بشعبية بين طلاب المدينة. وقد آثار هذا الأمر قلق السلطات العامة، وأبدت تخوفها من أن تصرف القهوة انتباه الطلاب عن دراستهم، فصدر قانون في عام 1664 يتوعد جميع الطلاب الذين يقصدون المقاهي دون أن يرافقهم مدرسهم بالعقوبة. وخلال بضع سنوات، أصبحت المقاهي جزءا مهما من الحياة الجامعية في كامبريدج. كان العديد من زوار لندن يرون أن المقاهي هي أفضل ما في العاصمة، والجميع باستثناء النساء مرحب بهم، وقد عكست المقاهي إلى حد كبير التغييرات التي لحقت بالمجتمع، كظهور الطبقة الوسطى، والرغبة في قضاء وقت الفراغ، في بيئة رصينة سعيا وراء النقاش، واستكشاف الأفكار. كما غدت مركزا لتبادل الأخبار، لاسيما أخبار عشيقات تشارلز الثاني، ودعاة الجمهورية.

غوردون كير

ومن بين الأشياء الجديرة بالتوقف في تأريخ المؤلف لمقاهي لندن، إشارته وحديثه عن يوميات كتبها أحد رجال القهوة، صموئيل بيبس، عن المقاهي اللندنية في القرن السابع عشر. في هذه اليوميات التي شملت الفترة من 1660 إلى عام 1669، ولم تنشر قبل القرن التاسع عشر، نقرأ أولا سردا تفصيليا لتاريخ المقهى الخاص بفرد واحد، في الوقت الذي أصبح فيه المشروب شائعا لأول مرة. وقد بدأ بيبس كتابة يومياته عندما عمل كاتبا لأعمال مجلس البحرية، وكان يتردد إلى الحانات ونادرا ما زار المقهى. وفي عام 1663 أصبح المقهى جزءا كبيرا من حياته، فأخذ يزور المقاهي مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، حسب وقت فراغه. كتب بيبس في أحد أسابيع كانون الأول/ ديسمبر عام 1663 أنه زار مقهى موجودا في أحد أزقة لندن ثلاث مرات، وأنه في 26 من الشهر ذاته «جلس وتحدث لوقت طويل إلى بعض السادة حول ما يتعلق بالإمبراطورية الرومانية».
ظل عالم المقاهي حكرا على الرجال لقرون عديدة، بينما اقتصرت تجربة النساء في بريطانيا مثلا على الوقوف بعرباتهن أمام المقاهي للحصول على القهوة التي كان الندل يجلبونها إليهن على أطباق في فناجين فضية. وقد شهدت هذه الصورة تغيرات عديدة، وذلك بعد قرار واكتشاف عدد من أصحاب المقاهي تأثير النساء في جلب الزبائن لمحالهم، مما آثار حفيظة الكنيسة البروتستانتية التي اعتبرت ما يجري بمثابة خرق، إلا أنهن تمكن أخيرا من دخول هذا العالم.

الصراع بين الشاي والقهوة في أمريكا

أخذت القهوة في أمريكا القرن الثامن عشر تحل محل الخمر، أو البيرة عند تناول الفطور في نيويورك، وهذا ما أدى إلى افتتاح مقاه مشابهة لتلك المقاهي في لندن، إلا أنها لم تتحول إلى مراكز أدبية مثل العديد من المقاهي الأوروبية، لأن المدينة كانت تفتقر إلى الكتاب المحترفين حينها. وشيئا فشيئا باتت الزيارة للمقاهي تكتسب طقوسا جديدة، وأخذ الأمريكيون يرتادون المقاهي من أجل ممارسة الأعمال التجارية، بينما خصصوا الحانات للترفيه. في هذا الجانب، نعثر أيضا على قصة طريفة تتعلق بصراع الشاي والقهوة، وكيف حاول الساسة الأمريكيون الانتصار للقهوة في محاولة للاستقلال عن بريطانيا (إمبراطورية الشاي).

موجات القهوة

يعتقد غوردون أننا أمام ثلاث موجات للقهوة في التاريخ. الأولى بدأت في القرن السادس عشر، واستمرت حتى القرن التاسع عشر. وبدأت الموجة الثانية بعيد الحروب العالمية في القرن العشرين، فلم تعد القهوة سلعة للرفاهية، بل أصبحت ضرورة يومية. لكن صنعها بشكل يومي كان يتطلب جهدا كبيرا، وهو ما أتاح الفرصة لظهور القهوة المطحونة الجاهزة، سريعة التحضير. ومع هذا التطور أصبح شرب القهوة عادة جوهرية بالنسبة إلى الجنود في الحرب العالمية الأولى، كما شكلت الظروف في الخنادق الحربية الجو المثالي لشرب القهوة سريعة الإعداد. ولن تتوقف الموجة الثانية هنا، بل سيرافقها حدوث الانفجار الكبير في عالم القهوة في أمريكا مع ولادة ظاهرة سلسلة مقاهي «ستاربكس» عام 1971.
وقد صمم مؤسسو الشركة الأمريكيون شعارا للمقهى على هيئة حورية بحر مكشوفة الصدر ذات ذيلين، وكانت الفكرة منها إنها امرأة فاتنة تغري الزبائن بدخول المقهى، كما أنها تشكل تلميحا بحريا، ثم عدل الشعار ثلاث مرات منذ ذلك الوقت.
أما الموجة الثالثة للقهوة، فهي الموجة التي يقودها اليوم المستهلكون والمصنعون، وتتمحور حول ثلاثة عناصر: الحرفية، والجمالية، وإمكانية التتبع. ويتعامل عشاقها مع القهوة من خلال عالم التذوق، وتركز على خاصية الجمالية البصرية. فالتصميم له تأثير في التجربة، حتى إنه أساسي مثل شكل كوب القهوة الذي سيترك بصماته على تجربة الشرب، كما أصبح الديكور والهندسة المعمارية للمقهى مهمين للغاية بالنسبة إلى عشاق موجة القهوة الثالثة. ولعل في الإشارة الأخيرة ما يذكرنا بدراسة الأنثروبولوجية الهولندية أندي كونينغ (كافيه لاتيه وسلطة سيزر في مقاهي القاهرة الراقية) التي اشارت فيها إلى دور مقاهي ستاربكس ومشروب الكافي لاتييه في خلق عوالم طبقية جديدة في المدينة وباقي مدن الشرق الأوسط. فهذه المقاهي لم تعد مجرد أماكن لتذوق أنواع جديدة من القهوة، وإنما باتت زيارتها بمثابة إعلان عن الرغبة للدخول في عالم آخر (العولمة) وخلق انقسام جديد بين أولئك الذين يمتلكون ناصية اللغة ويرتادون ستاربكس، ومن لا يمتلكون سوى الذهاب إلى محال الفول. وهي تطورات تعمق بلا شك من قصة وسيرة القهوة وتحولاتها في التاريخ العالمي والمحلي.

كاتب سوري