يشهد المشرق العربي تحولات جيوسياسية عميقة نتيجة الحروب الأهلية، والأزمات الاقتصادية، والتدخلات الإقليمية والدولية. في ظل هذه التغيرات، تواجه الأقليات الدينية والعرقية تهديدات متزايدة، ومن بينها الطائفة الدرزية، التي كانت عبر التاريخ لاعباً أساسياً في موازين القوى في المنطقة
قضية استراتيجية وضرورة الاعتراف بدورهم الريادي وفرض الحماية الوطنية اللبنانية والإقليمية والعربية!
يشهد المشرق العربي تحولات جيوسياسية عميقة نتيجة الحروب الأهلية، والأزمات الاقتصادية، والتدخلات الإقليمية، والدولية. في ظل هذه التغيرات، تواجه الأقليات الدينية والعرقية تهديدات متزايدة، ومن بينها الطائفة الدرزية، التي كانت عبر التاريخ لاعباً أساسياً في موازين القوى في المنطقة.
يمتد وجود الدروز في كل من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وإسرائيل، وقد تمكنوا تاريخيًا من الحفاظ على استقلاليتهم عبر بناء تحالفات سياسية وعسكرية استراتيجية. ومع ذلك، فإن المتغيرات الحالية تعرض وجودهم لخطر التهميش والتهجير القسري، مما يجعل من الضروري إعادة تأكيد الاعتراف بهم من قبل الطائفتين السنية والمسيحية في المشرق، وضمان حمايتهم كجزء لا يتجزأ من النسيج التاريخي للمنطقة.
دور الدروز في تاريخ المشرق وموقعهم الجيوسياسي
يعود أصل الدروز إلى القرن الحادي عشر، حيث انشقوا عن التيار الإسماعيلي الشيعي وطوروا عقيدة روحية باطنية تجمع ما بين عناصر فلسفية وإسلامية. يتميز المجتمع الدرزي بهيكله المغلق وسريته الدينية، مما ساعده على البقاء رغم الاضطهاد المتكرر عبر القرون.
في لبنان، لعب الدروز دورًا رئيسيًا خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، وكانوا فاعلين سياسيين رئيسيين بقيادة الزعيم المير مجيد أرسلان ورئيس الحركة الوطنية الزعيم العابر للوطن كمال جنبلاط ثم نجله ووريثه الوزير وليد. على الرغم من كونهم أقلية، فإنهم كانوا دائمًا في موقع قوة في السياسة اللبنانية بسبب موقعهم الجغرافي في جبل لبنان وتحالفاتهم المتغيرة مع القوى الإقليمية.
في سوريا، يتركز الدروز في محافظة السويداء، وهي منطقة استراتيجية تربط دمشق بالحدود الأردنية. تاريخيًا، كانوا جزءًا من الحركات القومية العربية، وكان لهم دور بارز في الثورة السورية الكبرى (1925-1927) بقيادة سلطان باشا الأطرش ضد الاحتلال الفرنسي.
اليوم، يواجهون تحديات وجودية نتيجة الضغط المتزايد من النظام السوري، وإيران، والجماعات المسلحة المتطرفة وإسرائيل!
في إسرائيل، اختار الدروز الاندماج في مؤسسات الدولة، حيث يتم تجنيدهم في الجيش الإسرائيلي، على عكس بقية العرب الفلسطينيين. لكن تمرير قانون “الدولة القومية اليهودية” عام 2018 أثار استياءً واسعًا بينهم، حيث شعروا بأن الدولة التي خدموها لعقود قد تخلت عنهم. في فلسطين، وإن كان عددهم محدودًا، فإنهم يشاركون في المعاناة العامة للفلسطينيين في ظل الاحتلال.
التهديدات التي تواجه الطائفة الدرزية وخطر التهجير القسري
يواجه الدروز تحديات متعددة تهدد وجودهم في المشرق، أبرزها:
– في سوريا: ضغوط النظام السوري، سابقاً وحاضراً، لجعلهم تابعين له، ومحاولات إيران المستمرة كما “حزب الله” لإدخالهم في مشاريعهم الإقليمية، إضافة إلى الاعتداءات المتكررة من الجماعات الإرهابية التي تعتبرهم خارجين عن الإسلام.
– في لبنان: تصاعد قوة “حزب الله” منذ 2005، وتراجع النفوذ السياسي للطائفة الدرزية في ظل الأزمة الاقتصادية وانهيار الدولة، يدفع الشباب الدروز إلى الهجرة، ويهدد التوازن الديمغرافي في جبل لبنان.
– في إسرائيل: رغم اندماجهم في الدولة، فإن السياسات التمييزية التي تكرست عبر “قانون الدولة القومية اليهودية” جعلتهم يشعرون بالغربة السياسية، مما قد يؤدي إلى انقسامات في داخل الطائفة.
– في فلسطين: يعاني الدروز الفلسطينيون من ازدواجية الانتماء، حيث يقعون بين سياسات إسرائيل التمييزية وبين التضامن مع القضية الفلسطينية.
إن استمرار هذه التهديدات من دون معالجة حقيقية قد يؤدي إلى نزوح قسري واسع النطاق للدروز، مما سيغير التوازنات الإقليمية ويفتح الباب أمام قوى متطرفة لملء الفراغ الذي قد يتركونه.
ضرورة الاعتراف بالدروز من قبل السنة والمسيحيين وحمايتهم إقليمياً
دور السنة كأكثرية في حماية الدروز وإدماجهم في الأمة الإسلامية:
لطالما كان موقع الدروز في داخل العالم الإسلامي موضوع جدل، حيث تم تصنيفهم أحيانًا كطائفة غامضة أو حتى منحرفة. إلا أن واقعهم التاريخي القومي والجغرافي يجعلهم جزءًا لا يتجزأ من المشرق العربي، مما يستوجب إكمال دمجهم ضمن الأمة الإسلامية.
يجب على المرجعيات السنية الكبرى، مثل الأزهر في مصر، وهيئات الإفتاء في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، إصدار فتاوى واضحة تؤكد أن الدروز هم جزء من الأمة الإسلامية، مما يعزز قبولهم بين الجماهير المسلمة ويحميهم من أي محاولات تكفيرية.
من الناحية السياسية، على الأحزاب والقوى السنية في لبنان والمنطقة، وبالأخص الحركات السنية المعتدلة في سوريا وفلسطين والأردن، أن تتعامل مع الدروز كحلفاء وشركاء، وليس كمجموعة هامشية. وهذا يتطلب إشراكهم في القرارات السياسية، وضمان عدم تهميشهم في أي تسويات مستقبلية.
تعزيز التحالف بين الدروز والمسيحيين في المشرق
يمتلك الدروز والمسيحيون تاريخًا طويلًا من التحالفات في المشرق، لا سيما في لبنان، حيث تشاركوا الحكم خلال مراحل متعددة. اليوم، ومع تصاعد الضغوط على كلا الطائفتين، يصبح التعاون بينهما أكثر أهمية من أي وقت مضى.
يجب على القيادات المسيحية في المنطقة، من البطريركية المارونية في لبنان إلى الكنائس الأرثوذكسية في سوريا وفلسطين، أن تبادر إلى تجديد ميثاق التحالف الدرزي – المسيحي.
يمكن تحقيق ذلك عبر:
– إطلاق مبادرات سياسية مشتركة في لبنان وسوريا لضمان حقوق الطائفتين.
– إنشاء مشاريع اقتصادية واجتماعية مشتركة لدعم الاستقرار في المناطق الدرزية والمسيحية.
– تعزيز حضور الدولة وانتشار القوى العسكرية والأمنية اللبنانيَّة، مشتركة، لحماية القرى الدرزية والمسيحية من أي تهديدات خارجية.
إجراءات عملية لحماية الدروز وضمان استقرارهم
من الضروري اتخاذ إجراءات عملية للحفاظ على وجود الدروز في المشرق وتعزيز دورهم، ومن أبرز هذه الإجراءات:
– تعزيز المؤسسات السياسية الدرزية في لبنان وسوريا لضمان عدم تهميشهم في أي مفاوضات سياسية مستقبلية.
– توفير دعم اقتصادي مُميَّز للمناطق الدرزية، خاصة في لبنان وسوريا، و منع الهجرة الجماعية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
– التنسيق المطلق بين الدروز والدول العربية المعنية لضمان أمنهم ضد أي تهديدات، سواء من الجماعات التكفيرية أو القوى الإقليمية التي تحاول فرض أجنداتها عليهم.
– الضغط الديبلوماسي الدولي على القوى الفاعلة في المنطقة لضمان حقوق الدروز ومنع أي محاولات لتهجيرهم أو استيعابهم قسريًا.
مصير الدروز هو اختبار لمستقبل التعددية في المشرق
إن مصير الدروز في المشرق العربي لا يتعلق بهم وحدهم، بل يمثل اختباراً لمستقبل التعددية والتنوع في المنطقة. إذا تم تهميش الدروز أو تهجيرهم، فسيكون ذلك مؤشرًا على تآكل النموذج التاريخي للمشرق كفسيفساء دينية وثقافية.
على السنة والمسيحيين أن يدركوا أن الدفاع عن الدروز ليس مجرد موقف تضامني، بل هو واجب وطني وقومي تفرضه ضرورة استراتيجية للحفاظ على التوازن الإقليمي ومنع المزيد من التفكك والانهيار. إن لم يتحرك الجميع الآن، فقد نجد أنفسنا أمام مشرق أحادي اللون، تتحكم فيه قوى التطرف والاستبداد، وهو سيناريو سيكون كارثيًا على الجميع.