هل تعرف ما هي مهنة جدتك يا فانسان؟
نعم، إنها تعمل في مدرسة.
وماذا تعمل في المدرسة يا فانسان؟ هل هي معلمة؟
كلا، إنها تعمل في التنظيف.
هذا مقتطف من حوار عفوي وبسيط جرى بين طفل في الرابعة والنصف من عمره ومقدم برنامج مسابقات على شاشة القناة الثانية في فرنسا. في نفس البرنامج، إلى جانب إيلودي، عاملة التنظيف، تقف إيزابيل الكاتبة، ومن الجهة الأخرى، ماتيو مدرس الرياضيات، ومعهم المتسابقون الستة الآخرون، كل منهم يذكر مهنته للتعريف عن نفسه، قبل أن يبدأ سيريل بطرح الأسئلة.
في فرنسا وبعض الدول الأوروبية، تُعتبر المهن عمومًا مصدر كرامة، بعكس البطالة التي تسبب الشعور بالمهانة. لا فرق بين رئيس جمهورية ونادل في مقهى، لأن العاطلين يعتمدون على مساعدة الدولة التي تمولها ضرائب العاملين من جميع الطبقات، من الرئيس إلى النادل. في العطل، يلجأ الطلاب إلى العمل الموسمي للحصول على المال الذي يساعدهم في الإنفاق على دراستهم. لذا، من الشائع أن تعمل طالبة طب أو مسرح أو حقوق كنادلة أو مربية أطفال أو عاملة في خدمة المسنين، حتى وإن كانت عائلتها ميسورة ماديًا. فالاستقلال المادي يعزز من شعورها بالحرية والثقة بالنفس. لا يُعيب أحد أن يعمل في البناء أو التنظيف أو الزراعة أو الاعتناء بالحيوانات، ولا تُعتبر المهنة معيارًا للتوافق الزوجي. فمن الطبيعي أن نرى محامية متزوجة من سائق باص، وطبيبة متزوجة من شرطي، وأستاذ جامعة متزوج من ممرضة.
اسماعيل يس
هذه النظرة لا تحتاج إلى شرح أمام الأوروبيين، إذ لا ينقص احترام الإنسان لأي شخص بسبب مهنته، فهي مجرد مهارات تختلف من شخص لآخر، ولا علاقة لها بالتقييم الاجتماعي أو الاقتصادي أو الفكري. لكن، في المقابل، تكشف الثقافة العربية عن نظرة مختلفة، حيث تتحول المهن إلى مقياس اجتماعي يحدد قيمة الفرد.
المهن في الثقافة العربية: بين التمجيد والإهانة
في كثير من المجتمعات العربية، يسعى الأفراد ليصبحوا أطباء أو مهندسين أو باحثين، حيث تمنح هذه المهن مكانة اجتماعية مرموقة. حتى السياسيون يسعون أحيانًا لتعزيز صورتهم بلقب “الكاتب” أو “المفكر”، من خلال تأليف كتب قد لا تكون من صياغتهم فعليًا، بهدف إبراز قيمتهم الثقافية. لكن في المقابل، تُستخدم المهن المتواضعة كأداة للإهانة، فنجد من يشتم رجلًا بوصفه “ماسح أحذية” أو امرأة بـ “عاملة تنظيف”، حيث تصبح المهنة رمزًا للتحقير بدلًا من كونها مصدر رزق. ربما تأثر هؤلاء في طفولتهم بقصص أو أفلام عن الفقراء، لكنهم يتجاهلون عظمة هذه الأعمال ويعودون إلى تحقير المهمشين في الواقع.
هذا التناقض يظهر بوضوح في حياة بعض الفنانين الذين قدموا أعمالًا تتناول الفقراء بتعاطف، لكنهم عانوا من الإهمال. الممثلة السورية نجاح حفيظ، الملقبة بـ “فطومة”، جسّدت شخصيات شعبية مثل الأمهات من الطبقات الفقيرة في أعمال مثل “صح النوم”، لكنها في آخر حياتها عاشت وحيدة في دمشق، مهملة من الوسط الفني والمؤسسات الثقافية حتى وفاتها. وفي مصر، قدم إسماعيل يس، نجم الكوميديا، شخصيات شعبية محبوبة في أفلام مثل “إسماعيل يس في الأسطول”، لكنه توفي بعد معاناة من المشاكل المالية وتراكم الضرائب، بعد بيع ممتلكاته من دون دعم كافٍ من زملائه. هذه الأمثلة تُبرز الفجوة بين التعاطف الفني والإهمال الواقعي، حيث يُترك الفنانون الذين يمجدون الفقراء ليواجهوا مصيرًا مشابهًا دون دعم.
الفقراء في الفن: بين التعاطف والتناقض
في عالم الفن والأدب، غالبًا ما يُصوَّر الفقراء كمصدر إلهام لأعمال مؤثرة، لكن هذا التصوير قد يحمل تناقضات أخلاقية. فعلى سبيل المثال، في العالم العربي، هناك قصص عن فنانين وكتاب استخدموا معاناة الفقراء لخلق أعمال ذات صدى واسع، لكنهم أظهروا سلوكيات متعالية تجاه الأفراد من الطبقات الفقيرة.
“في فرنسا لا فرق بين رئيس جمهورية ونادل في مقهى، لأن العاطلين يعتمدون على مساعدة الدولة التي تمولها ضرائب العاملين من جميع الطبقات”
كاتبة عربية شهيرة كتبت روايات عن معاناة النساء الفقيرات في الأحياء الشعبية، وحققت شهرة واسعة، لكنها كانت تُعرف بمعاملتها السيئة للعاملات المنزليات، حيث كانت تقلل من شأنهن وتتعامل معهن بازدراء. وفي السياق الغربي، أنتج مخرج سينمائي معروف فيلمًا وثائقيًا نال استحسان النقاد عن حياة المتشردين في المدن الكبرى، لكنه كان يتجنب التفاعل المباشر معهم أثناء التصوير، وأظهر سلوكًا ينم عن النفور. كذلك، كتب الشاعر الإنجليزي جون كيتس قصائد تعبر عن معاناة البشرية، لكنه مات فقيرًا مريضًا دون اهتمام من الأوساط الأدبية. والرسام الإسباني فرانسيسكو دي غويا صوّر معاناة الفقراء في لوحات مثل “كرونوس يلتهم أحد أطفاله”، لكنه عاش حياة مريحة كرسام بلاط، محتفظًا بمسافة من الطبقات التي صورها.
في الأدب، خلّدت قصص مثل “بائعة الكبريت” لهانس كريستيان أندرسن، و”الأمير والفقير” لمارك توين، وشخصيات دوستويفسكي التي تمثل قاع المجتمع، وحتى ساندريلا، الفتاة الفقيرة التي عاشت الظلم قبل تغيير مصيرها. في السينما، نجد أفلامًا مثل “ماسح الأحذية” الهندي و”ماسحو الأحذية” الإيطالي لفيتوريو دي سيكا، وفي الفن التشكيلي، لوحة “ماسح الأحذية” للؤي كيالي التي كرّست معاناة الإنسان. لم يكن الفقر مجرد موضوع أدبي، بل عاشه كتاب مثل كولن ولسون، الذي كتب “اللامنتمي” وهو من عائلة فقيرة، وجان جينيه، المتشرد الذي أصبح رمزًا أدبيًا. تشارلز ديكنز، الذي عمل في مصنع ملمع الأحذية طفلًا، نقل بؤس الطفولة في “أوليفر تويست”. وفي العالم العربي، كتب محمد شكري “الخبز الحافي” وهو أمي حتى العشرين، وغسان كنفاني عن التشرد في “رجال في الشمس”، ونجيب محفوظ عن أحياء القاهرة الشعبية، ويوسف إدريس عن المهمشين، والطاهر وطار عن بؤس الإنسان في الاستعمار، وفدوى طوقان عن معاناة المرأة. هؤلاء حولوا معاناتهم إلى أدب خالد، لكن بعضهم عانى من إهمال المجتمع رغم تعاطفهم الفني.
الفن بوصفه إحياء لكرامة المهمشين
في العصر الحديث، بدأ العالم يعيد الاعتبار للفقراء والمهمشين، ليس فقط كمواضيع فنية، بل كرموز إنسانية. لم تعد التماثيل حكرًا على الملوك، بل صارت مدن كثيرة تنصب تماثيل لأبطال الحياة اليومية. في الدنمارك، يوجد تمثال بائعة الكبريت تخليدًا لطفلة ماتت من البرد. وفي إنجلترا، تمثال لتشارلز ديكنز برفقة أوليفر تويست، رمز الطفولة المحرومة. تنتشر في شوارع العالم منحوتات مثل “المسيح المشرد” في تورنتو ومدريد ونيويورك، حيث يُصوَّر المسيح كمتشرد ينام على مقعد، في صرخة صامتة تدعو إلى رؤية الفقراء بعيون إنسانية. وفي العالم العربي، وُضِع في عمان الأردنية تمثال لعامل نظافة في قلب المدينة، وفي مصر تماثيل للمرأة الريفية تجسد البساطة والصبر. هذه الأعمال تعكس تحولًا في النظرة إلى الفقراء، حيث يمنح الفن صوتًا لمن لا صوت لهم.
بين ثقافات تُعلي من الكرامة الإنسانية وأخرى تُقيّم الناس بألقابهم الاجتماعية، يظل الفن ملاذًا يعيد الاعتبار للمهمشين. لقد صورت الآداب والفنون الفقر كمرآة لصراع الإنسان مع القهر والقدر، لكن التناقضات بين التعاطف الفني وسلوك الفنانين أو إهمال المجتمع تطرح تساؤلًا: هل يمكن للفن أن يغيّر نظرتنا إلى الفقراء إذا لم نترجم تعاطفه إلى واقع؟ وكيف يمكن للأدب والفنون التأثير على نظرة المجتمع إلى الفقراء والمهمشين وفرض احترام معاناة الأشخاص ليس عبر اللحظات المؤقتة التي يتعاطف فيها جمهور القراء والمشاهدين مع البطل المهمّش الفقير، بل عبر الحياة خارج الفن؟
شارك هذا المقال