تمر سوريا في مرحلة مصيريّة ستحدّد هويتها المستقبليّة ما بين خيارين: الوحدة أو الصراع بين السلطة الجديدة التي يمثّلها الرئيس أحمد الشرع واستمرار الفوضى وحالة عدم الاستقرار، ولعل الأحداث في الأيام القليلة الماضية بين الجيش السوري وفلول نظام بشار الأسد المنتمين إلى الطائفة العلوية في الساحل السوري، دقّت ناقوس الخطر، بصرف النظر عن ارتباط هذه الفلول بإيران و”حزب الله” من جهة، والمجازر التي ارتكبت بحق المدنيين من جهة أخرى.
منذ سقوط نظام الأسد، كان الهاجس الأول للأقليات العلوية والمسيحية والكردية والدرزية والشيعية، مدى قدرة السلطة الجديدة على استيعاب هذا التنوّع وحمايته، وكان هذا أيضاً الهمّ الأول لدى المجتمع الدولي.
للوهلة الأولى قدّم الشرع خطاباً ايجابياً مطمئناً لهذه الأقليات التي كانت لها تجربة غير موفّقة مع “هيئة تحرير الشام” التي تزعّمها الشرع، بسبب الانتهاكات التي ارتكبتها الفصائل في شمال غرب سوريا قبل أن تغيّر سلوكها في الأعوام الأخيرة.
لا شك في أن حكومة الشرع المؤقتة تمثّل الأغلبية السنية في سوريا لأول مرة منذ أكثر من 45 عاماً من الحكم الذي هيمنت عليه الأغلبية العلوية التي كان ينتمي إليها حافظ الأسد، وربما الثغرة الأساسية في السلطة الجديدة هي عدم ضبطها للأرض جيداً، بحيث ينتشر بعض الفصائل المتطرفة الذي ينشر خطاب الكراهية، ليتبيّن أنه بين كلام الشرع الايجابي وبعض الممارسات الشاذة هوة كبيرة، والمؤسف أن بعض الدول الاقليمية والدولية تتسلل للإستثمار في هذا الموضوع الحسّاس، مستغلّة حالة “المظلومية” لدى بعض الأقليات لإثارة المشكلات وخصوصاً إيران التي لم تهضم بعد خسارتها للورقة السورية.
واللافت أن ايران ليست الجهة الوحيدة التي ترى مصلحة لها في إضعاف السلطة الجديدة وبقاء سوريا في حالة عدم استقرار، بل إن اسرائيل التي استغلت منذ فترة المواجهات بين سلطة الشرع والدروز في السويداء، يهمّها أن تجد تبريرات لوجودها في سوريا وقد أبدت استعدادها أخيراً لحماية الدروز في أي مواجهة مع الجيش السوري الجديد.
ويرى الصحافي السوري مازن البدوي المقيم في الخارج أن سوريا يتنازعها تياران اليوم: الأول يتمثّل في بعض الأقليات الذي يريد الخروج عن إطار الدولة الحديثة والتوجّه نحو الدويلات الطائفية والعرقية أي نوع من الفيدرالية أو حتى التقسيم. والثاني الذي يتمثّل في الشرع وحكومته اللذين يريدان سوريا موحّدة في إطار دولة قانون ومؤسسات حديثة وديموقراطية.
لا شك في أن تدخلات ايران وتركيا واسرائيل وتذرّعها بحماية الأقليات في سوريا، تُلحق الضرر بالمجموعات الطائفية والعرقية، بدلاً من مساعدة السوريين في بناء دولة تقوم على المواطنة المتساوية. وهدف هذه الدول أولاً وأخيراً التدخل السياسي والاقتصادي وتفتيت البلد وشعبه، وفق البدوي.
ما حصل منذ أيام من معارك في الساحل يؤكّد أن بعض الأطراف الخارجية كإيران ضالع فيه، وهذا خطأ من الفئة المسلّحة العلوية التابعة للأسد، أما السلطة فارتكبت خطأ لا يقل خطورة عندما خرج بعض العناصر عن انضباطه وتسبب في مقتل ما لا يقل عن 1300 شخص، ثلاثة أرباعهم من المدنيين.
ووفقاً لـ “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، تبيّن أن المجازر ارتكبت من كلا الجانبين، وكان من بين الضحايا رجال ونساء وأطفال وكبار السن، ومن بين القتلى عائلات بأكملها.
وقد اعترف الشرع بالأخطاء التي ارتكبت وكلّف لجنة استقصاء حقائق لمعرفة المعتدين، ولم ينفِ أن هذه المعارك أخّرت مسيرة بناء الدولة الجديدة، وأفقدت الثقة بالشرع نفسه، بحيث أصبحت طمأنته للأقليات غير موثوقة، وباتت الثقة الآن في أدنى مستوياتها، وأنظار المجتمع الدولي تتجه إلى طريقة تعامل الشرع مع أنصاره المتطرفين وإنزاله أقصى العقوبات في حقّهم.
ويشير البدوي إلى أن سوريا تحتاج إلى مؤتمر حوار وطني، يتم فيه اختيار ممثلين عن جميع القوى السياسية والأحزاب والمثقفين، بما في ذلك المتدينين، ما سيمهّد الطريق لعملية الانتقال وتشكيل لجان لصياغة دستور جديد للبلاد ومناقشة العديد من القضايا الملحة.
لكن الرئيس الشرع أقدم على خطوة استراتيجية ذكية بعد الأحداث المؤسفة التي سبّبت امتعاضاً دولياً، وهي توقيعه اتفاقاً مشتركاً مع قائد “قوات سوريا الديموقراطية” أي الأكراد مفاده اندماج قوات “قسد” ضمن مؤسسات الدولة السورية وضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة السياسية ومؤسسات الدولة كافة بناءً على الكفاءة، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية.
نص الاتفاق على الاعتراف بالمجتمع الكُردي كجزء أصيل في الدولة السورية، وضمان حقوقه الدستورية والمواطنة الكاملة، ووقف إطلاق النار في الأراضي السورية كافة، ودمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز.
من جهة أخرى، يوضح الصحافي البدوي أن الشرع قد يُقدم على اتفاقيات أخرى في المستقبل القريب مع الدروز والمسيحيين والعلويين. وهذا ما سيسمح له بالعمل بهدوء خلال المرحلة الانتقالية التي يتوقّف نجاحها على مبدأ التشاركية، بحيث ينبغي إشراك جميع مكونات المجتمع السوري، والافادة من الكفاءات الوطنية في إدارة البلاد. ومن هذا المنطلق، فإن تشكيل هيئة استشارية واسعة، تضم شخصيات من مختلف الأطياف والخلفيات، سيكون خطوة ضرورية لضمان عملية انتقالية أكثر توازناً.
كل ذلك، لن يجنّب سوريا بعض المشكلات، لأن جزءاً من الأزمة يتعلّق بالتدخلات الأجنبية، وفق البدوي، فهناك إسرائيل المجاورة، التي استهدفت الجيش السوري مباشرة بعد سقوط الأسد، واتخذت مواقع إضافية في مرتفعات الجولان، وتقدم نفسها كمدافع عن الأقليات السورية. تنظر إسرائيل إلى النفوذ التركي المتزايد في دمشق بريبة، وخصوصاً بعد موقف أنقرة القوي بشأن غزة. ولا تزال روسيا تتفاوض على مصير قواعدها البحرية والجوية في سوريا، وتحديداً في المنطقة التي اندلعت فيها الاضطرابات. والمفارقة أن إسرائيل تفضل وجود روسيا على حدودها بدلاً من تركيا.
ولا بد من الاعتراف بأن “القلّة بتولّد النقار”، والوضع الاقتصادي في سوريا ليس على ما يُرام، ولن يتحسّن إلا بعد رفع العقوبات الأميركية والدولية عنه، وهذه الخطوة لن تحصل إلا بعدما تُثبت السلطة مصداقيتها في المحافظة على الشعب السوري بكامل أطيافه.