في كتابها الجديد “الأرامل: التاريخ المسكوت عنه” الصادر عن دار صفصافة عام 2025، بترجمة أنجزها عبد الرحيم يوسف، تقدّم الكاتبة والباحثة الهولندية مينيكه شيبر سبرًا معمّقًا يمتدّ من فجر التاريخ الإنساني حتى اللحظة الراهنة عن أوضاع فئة من المجتمع أغفلت بشكل متعمّد، بل ومتواطئ حتى من قبل الحركات النسوية، حيث كانت الكاتبة مارجريت أوينز في كتابها “عالم من الأرامل” (1996) أول من سلّط الضوء على الوضع القانوني والاجتماعي الضعيف للأرامل وخاصة في المجتمعات الفقيرة في أفريقيا وآسيا. ولقد بيّنت تلك الكاتبة أنّه على الرغم من تزايد جماعات حقوق الإنسان والاهتمام المتزايد بحرية التعبير عبر العالم، إلا أنّ فئة الأرامل ظلّت غير مرئية، مهملة ومنسية، فأن تصبح الأنثى أرملة، فهذا يعني أن تعيش حياة من الإهمال والتمييز والتحرّش والوحدة والنبذ والفقر دون استثناء تقريبًا.
إذا كانت اللغة وعاء الفكر الإنساني، فهي ليست مؤدّية حيادية عنه، بل تُفصح عن تحيّزاته الأيديولوجية. تشير كلمة (الترمّل) إلى الخواء، ففي اللغة السنسكريتية تفيد كلمة (فيدهوا/ الأرملة): المعدمة. وفي اللاتينية تعني (فيدواتا/ الترمّل): جعله معدمًا؛ وهذه الكلمة هي جذر الكلمات الدالة على الأنثى الأرملة في لغات أوروبية عديدة. أمّا كلمة الذكر (الأرمل) ومع أنّها من ذات الجذر اللغوي، فهي تعني أنّ ترمّله مؤقت، لأنّه سيتزوج بعدها، ومن المفارقة أنّ كلمة أرمل لا توجد في بعض اللغات مع أنّ كلمة أرملة موجودة. وهذا يفيد بأنّ الترمّل حالة تستغرق الأنثى، فيما هي مجرد سحابة صيف في عمر الرجل. ولربما كانت اللغة اليابانية أكثر صراحة في توضيح المعنى، فكلمة (موبيجين/ أرملة) تعني: “تلك التي لم تمت بعد” فلا يوجد صيغة لغوية كهذه تتعلّق بالذكر بالمعنى ذاته. لا تبتعد اللغة العربية عن هذا المنحى في معاني كلمة الترمّل: الإنسان الأرمل، هو الفقير الذي ليس له من يعوله ويطعمه، والترمّل كلمة مستوحاة من رمل الصحراء غير الخصبة. هذا المعنى السلبي للأرملة في شتى الثقافات الإنسانية لا يتوقّف عند معنى الكلمة الدالة على الأنثى التي تفقد زوجها، فهناك أساطير عديدة توضّح السبب لماذا رُبط الخواء بكلمة الترمّل، ففي أساطير ما بين النهرين نجد الإلهة (إنانا) تقرّر النزول إلى العالم السفلي/ عالم الموت لتضمّه إلى مملكتها السماوية، لكنّ أختها (إريشكيجال/ إلهة الموت) تتمكّن منها وتقتلها، ولكي تعود إلى الحياة كان عليها أن ترسل بديلًا عنها؛ إنسانًا فانيًا، فتختار إنانا زوجها الراعي (دوموزي) بديلًا عنها.
رسم الفنان هنريك سيميردزكي لوحته “مراسم حرق جثة روسي” عام 1884
هكذا أصبح على الراعي أن يقضي عدّة شهور في السنة في عالم الموت ويحيا عدّة أشهر أخرى قرب إنانا، منتجًا بموته المؤقت المناحة البكائية في أساطير ما بين النهرين ومن خلالها نفهم لماذا أوكلت الثقافة البشرية طقوس البكاء والنواح على الميت إلى الأنثى وفي الوقت نفسه حمّلتها السبب بموته. إذًا الأنثى كانت السبب في موت زوجها بشكل مباشر، وفي القصّ الشعبي اليهودي هناك تصريح واضح من آدم حينما حضره الموت؛ بأنّ حواء هي سبب الموت. بناء على هاتين الأسطورتين كان الاتهام حاضرًا بحقّ الأنثى، بأنّها السبب في وفاة زوجها، أسواء بسبب الخطيئة، أو بأعمال السحر لدى الشعوب الأفريقية، أو لأنّها ارتكبت معصية في حياتها السابقة كما في ثقافة الهندوس في الهند، فالأنثى هي السبب بموت زوجها وعليها أن تدفع الأثمان.
“من المفارقة أنّ كلمة أرمل لا توجد في بعض اللغات مع أنّ كلمة أرملة موجودة. وهذا يفيد بأنّ الترمّل حالة تستغرق الأنثى، فيما هي مجرد سحابة صيف في عمر الرجل”
وأمام هذه الاتهامات كان على الأرملة أن تدخل في الحداد على زوجها الميت، لزمن محدّد أو طوال العمر مرتدية اللون الأسود أو الأبيض، أو تلتحق بزوجها الميت عبر دفنها معه، أو انتحارها أو أن تمتنع عن الزواج وتعيش بتولية جنسية إلى آخر العمر، ويصاحب ذلك إقصاء عن النشاط الحياتي إلى حدوده الدنيا.
لا حياة بعد موت الزوج!
تملك الكثير من الشعوب عادات تُجبر فيها الأرملة على اللحاق بزوجها، وذلك بأن تدفن معه، أو أن تُحرق حيّة مع جثة زوجها، أو تُشنق، أو تُخنق، أو يُقطع رأسها، أو يُطلق عليها الرصاص. كان الحاكم قديمًا يصحب معه زوجاته ومحظياته إلى العالم الآخر، ففي الباراغوي أشار الرحّالة فرانسوا خافيير شارليفوا إلى أنّه لم يكن صعبًا وسط شعب جوارني البارغواني أن يجد ضحايا يرافقون الملك في موته، أسواء كان الأمر من زوجاته أو رعيته، فقد كان يعتقد بأنّ ذلك سيمنح الملتحقين بالميت حياة سعيدة في الآخرة. وهذا الأمر متواجد في أفريقيا، ففي قبيلة الأشانتي يمضي الناس بطواعية إلى الموت مع زعيمهم. أمّا في أوروبا، فقد قدّم الرحالة العربي أحمد بن فضلان (879- 960) مشاهداته عن حرق وقتل الزوجات لأجل مرافقة أزواجهن إلى العالم الآخر. لقد كان الفايكينغ والشعوب الجرمانية يفعلون ذلك وقد حضر بن فضلان جنازة أحد الزعماء ونقل ما جرى، حيث جرت مراسم تشييع الميت وأحضرت زوجته وألبست ثياب العروس وأدخلت معه سفينته التي سُحبت إلى الشاطئ وأضرمت بها النار ليحترقا معًا. واستنادًا إلى هذه المروية رسم الفنان هنريك سيميردزكي لوحته “مراسم حرق جثة روسي” (1884) وهي موجودة الآن في متحف سانت بطرسبرغ. وعلى نفس المنوال ذكر الرحّالة العربي ابن بطوطة طقوس حرق الأرامل في الهند، وأورد ملاحظة بأنّه لم يكن إجباريًا. لقد فات ابن بطوطة العقيدة التي تقف خلف ذلك، فلقد كان الهندوس يعتقدون بأنّ الأنثى التي تندفع إلى محرقة زوجها ستصبح (سوتي) كزوجة الإله (شيفا) وأمام هذا المطلب لم يكن يبقى للأرملة من حلّ، فإن رفضت ذلك جلبت العار لنفسها ولأهلها ولمجتمعها وستعيش عيشة الموت أفضل منها، لذلك كانت تُقدم على الموت بطواعية باطنها الإجبار. وقد سجل الطبيب الإنكليزي ريتشارد هارتلي كيندي (1895) إبّان احتلال إنكلترا للهند مراسم حرق إحدى الأرامل على نفس شاكلة ذكر ابن بطوطة.
الكاتبة والباحثة الهولندية مينيكه شيبر
تقول مارتي شانتال نجوسا رئيسة منظمة “أرامل في محنة” في أفريقيا، بأنّ موت الأرملة يبدأ مع موت زوجها. لقد كانت النساء اللاتي يتوفى أزواجهن يتّهمن بممارسة السحر وقد كانت أكثر التهم التي طاولت النساء في محرقة الساحرات في أوروبا تنال من الأرامل، حيث توجّه لهن تهم القيام بأعمال سحرية أمتن بها أزواجهن، فيقتلن لهذا السبب. وهناك تمثال برونزي في هولندا يمثّل الأرملة (مختيلد تن هام، 2004) التي أحرقت عام 1605 بسبب اتهامها بالسحر. أمّا في أفريقيا فبالكاد أن تنجو أرملة من اتهامها بالسحر، وعادة ما تقتل الأرامل لهذا السبب. أمّا أسباب قيام هذا التقليد، فهو الاستيلاء على أملاك الزوج الراحل من قبل إخوته، فلا يتركون شيئًا للأرملة حتى أطفالها.
أقواس العفة
كان انتحار الأرامل في الصين بعد موت أزواجهن ينال حظوة كبيرة ويثمّن اجتماعيًا، لكن مع الوقت حلّت عادات أخرى، فالأرملة التي تمتنع عن الزواج وتحفظ عفتها من أية علاقة جنسية شرعية أو محرّمة، تنال التكريم من مجتمعها وعندما تموت يُبنى لها قوس يسمّى “قوس الشرف” يصبح مزارًا وشرفًا اجتماعيًا لعائلتها.
“على الرغم من أنّ الذكر المتوفّاة زوجته يسمى أرملًا، لكن كما يقول المثل: “حزن الرجل على زوجته المتوفّاة يمتد فقط إلى الباب”.”
هذا الوأد الجسدي للأنثى لم يكن في الصين فقط، بل في الهند أيضًا، فإذا كانت الأرملة التي تتقدّم بشجاعة إلى محرقة زوجها قادرة بانتحارها هذا على تبرئة زوجها في العالم الآخر من أخطائه الدنيوية، فإنّها بنذر العفّة تنال أيضًا نصبًا تذكاريًا، يتحوّل إلى محجّة لطلب المغفرة. هذا المنطق الذي يتوسّل ظاهر الأخلاق يخفي خلفه الطمع بميراثها من زوجها وعدم تشتت الملكية الموروثة إن تزوجت من رجل آخر. لا تختلف العادات الأفريقية عن ذلك كثيرًا، فإذا كان لباس “الساراي الأبيض” الذي ترتديه الأرملة طوال حياتها في الهند دليلًا على التزامها بعفّة جسدها، فالأرامل في أفريقيا عليهن أن يقمن بطقوس تطهير، لكي لا تعود روح الزوج وتزعج الأحياء، وهذه الطقوس ليس أقساها بأن تعتزل الأرملة المجتمع أو تشرب ماء غسيل جثة زوجها، بل عليها أن تقيم علاقات جنسية مع إخوة الزوج أو شخصًا يمتهن التطهير يسمى (الوارث) يتجلّى عمله بإقامة علاقات جنسية مع الأرملة من دون وقاية مع المخاطر المرضية المترتبة على ذلك، كالإصابة بالإيدز، حتى تتطهّر من روح زوجها.
لم تكن الأديان السماوية مجحفة كثيرًا بحق الأرملة كما رأينا عند بعض الشعوب، ففي الديانة اليهودية يرث أخ الزوج أرملة أخيه ويكون الأطفال المنجبين من هذه العلاقة على اسم الأخ المتوفى كي لا ينقطع ذكره في بني إسرائيل. أمّا لدى المسيحية، فلم يكن هناك ما يمنع الأرملة من متابعة حياتها، لكن تعليمات القدّيسين ورجال الدين كانت بأن تلتزم الأرملة نذر العفّة حتى مماتها. بينما أجاز الإسلام للأرملة بعد انتهاء عدّة الوفاة أن تعود إلى نشاطها الحياتي الطبيعي.
الأرامل
على الرغم من أنّ الذكر المتوفّاة زوجته يسمى أرملًا، لكن كما يقول المثل: “حزن الرجل على زوجته المتوفّاة يمتد فقط إلى الباب”. لم يطالب المجتمع الذكر يومًا بأن يخضع لتلك التقاليد والعادات والأعراف التي سُجنت بها الأرملة طوال حياتها، لذلك كان هذا الكتاب عن تاريخ الأرامل النساء المسكوت عنه. هو كتاب غني بالقصص والتحليلات والأمثلة؛ من الصغيرات اللاتي يصبحن أرامل قبل أن يبلغن بسبب زواجهن المبكّر، إلى فكرة أنّ روح الأنثى بعد وفاتها ليس لها تأثير، لذلك يهمل الذكر مراسم الحداد عليها، فيما روح الذكر له تأثير على عالم الأحياء، فأنيطت بالأنثى طقوس إبعاد هذه الروح، عن طريق الحداد وعفّة الجسد طوال الحياة، ممّا أدّى إلى سلب حياتها منها. لقد انقرضت الكثير من هذه العادات لكن بعضها ما زال حاضرًا. فحياة الأرملة ما زالت صعبة ومن الضرورة الإنسانية السعي إلى تغييرها، وكما قالت الكاتبة: “لا نستطيع أن نغيّر التاريخ، لكنّنا نستطيع أن ننظر إلى الماضي بمعرفة جديدة وإلى المستقبل بعيون جديدة”.
*كاتب سوري.
عنوان الكتاب: الأرامل: التاريخ المسكوت عنه المؤلف: مينيكه شيبر المترجم: عبد الرحيم يوسف