نولَد بحزمة دائرية من الأعراف الاجتماعية والدينية والأخلاقية والثقافية؛ وهذا أثرٌ فطري موروث، نستكين له ونتمثله مع الزمن طوعًا أو كرهًا. ونصفُ تلك الحزمة بأنها هوية شخصية تستقر وتتوسع في الوجود الجماعي، كإنتاج وراثي في تجلياته الطبيعية في المجتمع والبيئة الحاضنة له. فتُرسم شخصياتنا الأولى، وتؤسس وعينا المبكّر في أن الوجود هو هكذا تحت مثل تلك الحواضن بأشكالها وتجلياتها ومعطياتها، مثلما تمنحنا بطاقة العبور إلى الحياة بالطريقة المرسومة سلفًا. حتى تكون الشخصية الإنسانية مسكونة بها من دون أي فحص أو اعتراض أو تقاطع أو لفظ خارج عن مثل تلك المنظومة الجينية. فما هو اجتماعي أو ديني أو أخلاقي يكبر في الوعي الفردي بمرور الوقت. ويتجسد لاحقًا في الكثير من التصرفات والسلوكيات والأفعال والخطابات الشخصية كما نعرف. وبالتالي فالتعبير عن كل هذا في الكتابات أمر طبيعي حتى لو تقاطع الكثيرون مع هذه الخطابات، فهي إنتاج بيئة ومجتمع شكّل الوعي الفطري غير الفاحص للمنظومة الاجتماعية. أو غير مدرّب على إعادة ترتيبها على وفق العصر الذي أنتج هو أيضًا منظومات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية وفكرية وثقافية غيرها. هذا إذا اتصلنا بأي مجتمع لأغراض فحص آلياته ودورها في تعميم أعرافها وتقاليدها وثقافاتها بين الأفراد والجماعات، في زحمة الأفكار الكثيرة التي أنتجها ويُنتجها عصر الآلة الصناعي والعلمي والإلكتروني.
(2)
لكن ما هو أدبي – حصريًا- لا يولد مع الأفراد والجماعات قطعًا. لا توجد ولادة أدبية وراثية بالمعنى البيولوجي، فطبيعة المجتمعات وعلاقاتها الثقافية متفاوتة بنسب كبيرة، حتى في البقعة الجغرافية الواحدة. ولا تعفي اللغة المشتركة من أن يكون هناك تباين بين الأفراد أو الجماعات في الوعي والاستقبال والهضم والإنتاج. وهذه من الأمور المسلّم بها. بل يمكن أن يكون ثمة جو أدبي بمحيط ثقافي عام يساهم في تحوير الفطرة إلى مستجدات دافعة لها، وإغناء المشهد الاجتماعي بما هو صالح لأن يغذّي الحياة بالمواهب المهيّأة للإلهام والتخاطر والوعي الفكري، حينما ترى ما لا يراه كثير من الناس، لتكتسب مرونة في التعامل مع مستحدثات العصر من تغييرات حاسمة في بنية المجتمع واقتصاده.
هذا يوفر بعض الأجواء الصحية للمواهب التي بقيت منشطرة بين ما هو موروث اجتماعيًا ودينيًا، وبين ما هو ثقافي- أدبي متجدد قد يتجاوز بعض القيم- التي تُعد ثمينة في اجتماعياتها- من أبوابٍ كثيرة. منها باب التبرير الفني والموضوعي، أو التمرد على السائد الاجتماعي، أو إعلاء السرد على سواه من المكتسبات الاجتماعية القديمة أو تعاضد القديم بالجديد لإنشاء منظومة قيمية قادرة على أن تمنح المجتمعات طاقة إيجابية خلّاقة في إرساء صور جمالية، وليس أفضل من الأدب أن يكون هو في المواجهة المتعاضدة لترسيخ قوة فنية دافعة إلى الجمال.
“السرد الواقع بين زمنين هو السرد الذي يتوجب الاشتغال عليه أدبيًا، كونه خلاصة من خلاصات زمنية واقعية، استثمرت وجودها من الماضي بأعرافه وتقاليده وفطرته الدينية والأخلاقية، وصولًا إلى معطيات الحاضر”
(3)
لو تجاوزنا موضوعة “الفطرة” التي ترافق النشأة الأدبية الأولى، وحتى هذه محكومة بمواريث عميقة في النفس البشرية، لا نقول بأنها تُلزم الكاتب بأن يعتمدها عقيدة أدبية، بل يمكن أن يتحكم بها أثناء الشروع في الكتابة. فالطبيعة البشرية محكومة بإرثها الغني العميق، ومن ثم فهي محكومة بآليات كتابة قد تكون “إجبارية” في بعض الأحيان، وقد لا تساعد التجربة الفتيّة أن تكون بموازاة العالَم متعدد الاجتماعيات في الأديان والطوائف والأمزجة والجغرافية والتاريخ والعلم والتحضر. وربما هناك مؤثرات غير منظورة تتشكل في منظومة الكتابة التي تحاول أن تؤاخي بين الموروث وما هو مكتسب في الحياة المعاصرة. وهذا غالبًا ما يكوّن إشكالًا نفسيًا بين الفطرة والموهبة، يتجلّى في الكتابة والنضج ومراقبة الحلقات الاجتماعية بين ماضٍ مرسوم بدقة متناهية، وبين حاضر شائك بعناصره ومفرداته المستحدثة من عصر العلم وتكنولوجيا الإلكترونيات، بكل ما فيها من متغيرات وإضافات جوهرية في الحياة. حتى يمكن القول بأن حضارة اجتماعية ولدت وتولد في هذا العصر المتقدم كثيرًا على العصور الماضية.
يحدث مثل هذا التقاطع كثيرًا في الكتابة. فالواقع القديم زاخر بما يُضفي على الكتابة الكثير من الواقعية التي لا فكاك منها والإقرار بقوتها الاعتبارية في الكتابة الأدبية، والواقع المتحضّر بآلياته العلمية والتكنولوجية يتجسّد في ممارسات الواقع اليومية، التي قد تكون على خلاف مع الفطرة الجاهزة في لا وعي الكتابة. هذا الافتراق الطبيعي يبيح للتمرد السردي بأن يكون في تمام التحول من النقطة س إلى النقطة ص شريطة أن يكون مدروسًا بوعي منفتح على الزمنين الماضي والحاضر. ومثل هذا الاشتراط يسمح أن يكون للزمن سرده الشخصي الواقع بين الزمنين في واقعية جديدة، تكوّن لها وجودًا ضامنًا إلى البقاء الأدبي، حتى في النظريات النقدية التي تتبع الأثر الجديد وتتواصل معه، مثلما حدث في واقعية ماركيز السحرية ويوسا وغيرهما من سرّاد الواقعية السحرية، الذين عالجوا وقائع الواقع من منظور تداخل فيه الخيالي بالواقعي الصارم، فأنتجوا جينات سردية ما يزال أثرها قائمًا في الكتابة، والتي تخلصت من فطرة الواقع ومورثاته الاجتماعية وثوابته القديمة، غير أنها حافظت عليه بطريقة مثالية، وقدّمته إلى العالم ببراعة واقعًا محليًا لم يخرج عن ذاته كثيرًا، بل اكتنز بمعارف خيالية وطّدت من قيمته الاعتبارية من دون أن تسحقه أو تتمرد عليه. لكنها بالمقابل، تمردت على أشكال كتابته فأنتجت سحرية الشكل في خيال فائق نادر، لتكون الواقعية السحرية معْلمًا بارزًا في السرديات الروائية والقصصية.
“السرديات الجديدة في العالم العربي على وجه التحديد، ما تزال تقتفي فطرة الوعي المبكر لها. لم تتطور مناخاتها في التغيير الشامل الذي ضرب هذا الكوكب”
(4)
السرد الواقع بين زمنين هو السرد الذي يتوجب الاشتغال عليه أدبيًا، كونه خلاصة من خلاصات زمنية واقعية، استثمرت وجودها من الماضي بأعرافه وتقاليده وفطرته الدينية والأخلاقية، وصولًا إلى معطيات الحاضر التي نراها متسارعة وغريبة في إيجاد علاقات أكثر جودةً وإلهامًا. فلا أحد يقدر على محو الماضي لأننا ما نزال فيه (كلنا ماضٍ في الكون الواسع المتجه إلى المستقبل) نتشبث بتجلياته الكثيرة. مثلما لا يمكن أن نحذر ما توصل إليه الحاضر من علوم واستثناءات عصرية في الكثير من المرافق الحياتية التي نعيشها بجمال فريد. فالكاتب العربي حتى اليوم ما يزال أمينًا على فطرة المكتسبات الذاتية، وعلاقته حذرة بالمستجدات العلمية والإلكترونية. ولا يرى في المجتمعات العالمية إلا بقديمها الذي قرأ عنه في كلاسيكيات الأدب العالمي. أما المجتمعات العربية المتأثرة بما يصدّره لها الآخر فهي ما تزال شرقية بذلك الموروث الذي لا نعيبه قطعًا، لكن القصد بأن الكاتب العربي لا يمتثل كثيرًا إلى متغيرات الحياة بوصفها علمًا منفتحًا على المجتمعات العالمية. إذ صنعت الظروف المعقدة المتتالية في هذا القرن تداخلات جوهرية في الوعي الجماعي العالمي. تغيرت المجتمعات. الحروب كثيرة. سقوط أنظمة ديكتاتورية. قتلى من الأبرياء بعشرات الآلاف. كوارث الطبيعة المفاجئة والمتوقعة. عولمة الإلكترونيات. العالم أقل من قرية صغيرة. الاتصال المباشر بين الأفراد والمجتمعات. متغيرات الاقتصاد العالمي غيّرت من مفاهيم المجتمعات في شؤون الحياة اليومية. الجغرافيات المتوسعة. الاحتلالات العسكرية. الطاقة البديلة. مشاكل البيئة وتغيرات المناخ. الوصول إلى تفسيرات جديدة في الأيديولوجيات الدينية وتسلقها منابر الحياة. سقوط الأيديولوجيات السياسية. خرائط جديدة في الشرق الأوسط وسيادة القوة العسكرية.
كل هذه العوامل البيئية والاعتبارية والسياسية والعسكرية وما يخص وجود الشعوب على الأرض تتغير في منعطفات حاسمة؛ توصِل للكاتب رسائل متتالية في أن الفطرة مثّلت أدوارها لعقود زمنية، وأن الوعي الجديد للحياة لا يتطلبها كثيرًا، بقدر ما يتطلب فحص آليات الكتابة في عالم جديد وفحص شكلها ومضامينها.
(5)
نتوصل إلى حد ما أن السرديات الجديدة في العالم العربي على وجه التحديد، ما تزال تقتفي فطرة الوعي المبكر لها. لم تتطور مناخاتها في التغيير الشامل الذي ضرب هذا الكوكب. صحيح بأننا نعيش في الماضي، لكننا لم نقتفِ موجِبات الحاضر ودلالاته التالية في المعطى العام، وبالتالي فإن استشراف المستقبل أمر في غاية الصعوبة. لهذا نقول بأن الأجيال اللاحقة ستوائم بين الماضي والمكتسب من الحاضر الأكثر مغامرة في الوجود؛ بعدما تكتسب درجة الوعي العلمي الكافية، وهذا الأخير سيكون أشبه بالفطرة لأجيال زمنية مقبلة. بمعنى أن معطيات العلم وإلكترونياته الجديدة ستدخل من فضاء الكتابة بأشكال أكثر ملائمة لعصرها، وأكثر تركيزًا عليها، بما يوطد الصلة الفطرية- الجديدة بما هو آتٍ من خلاصات علمية وحياتية. وهذا أمر ملموس في تداعيات الحياة الكثيرة التي تتقدم في مجال حضاري، لكنها قد تتأخر في مجالات أخرى، وتفقد فطرة الاتصال بالماضي الأبعد. وهذا ليس حتميًا بالضرورة، لكنه حتمي مع أجيال أخرى ترى ما لا يمكن لنا أن نراه الآن، بوصفنا إنتاج ماضٍ وفطرة اجتماعية ودينية وأخلاقية مكرّسة حتى هذه اللحظة.
هوامش وإحالات:
ماركيز: أشهر روائيي وكتّاب أميركا اللاتينية. حاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982. تعد روايته “مئة عام من العزلة” من أشهر ما كتبه. توفي عام 2014.
يوسا (ماريو فارغاس): روائي وسياسي من بيرو. حاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2010.
الواقعية السحرية: تقنية أدبية ظهرت في كثير من الأعمال الروائية والقصصية في الأدب الألماني منذ مطلع الخمسينيات وأدب أميركا اللاتينية بعد ذلك. أشهر من كتب عنها بورخيس وماركيز.
ويكيبيديا- الموسوعة الحرة.
شارك هذا المقال