سيظهر الإمام المهدي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً. هذا ما تؤمن به رشا علويّة. وإذا ظهر اليوم، أو غداً، فإنّ بلاد “الشيطان الأكبر” هي عدوّه الأوّل. وبالتالي سيكون في مواجهة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبين الإمام المهدي وترامب، تقف رشا علويّة، لتختصر وقوفنا كلّنا، نحن شيعة لبنان والعالم، بين الغيب والواقع. ولتتكثّف، في حكايتها، استحالةُ التوفيق بين العالمين. عالم الغيب الذي بات يمسك بأعناقنا، ويتسبّب بقطعها، وعالم الواقع، الذي لم يعد باستطاعته تحمّل غيبيّاتنا ونتائجها.
هي شابّة لبنانية من بلدة مارون الراس. تلك البلدة المحاذية لفلسطين المحتلّة. أوّل بلدة دخلتها القوّات الإسرائيلية في العام الماضي حين قرّرت غزو جنوب لبنان.
ولدت رشا علويّة في بداية تسعينيات القرن الماضي. وكبرت في “زمن” السيّد حسن نصرالله. وأمضت مراهقتها وهي تشهد “انتصاراته الإلهيّة”. من تحرير عام 2000 إلى حرب تمّوز 2006، وصولاً إلى سيطرته على أجزاء من سوريا وتمدّد سطوته إلى أنحاء اليمن والعراق وفلسطين.
في هذه الأثناء درست الطبّ. ولم تجد أفضل من الجامعة الأميركية في بيروت لتدرس الطبّ. لم تعجبها الجامعة اللبنانية. الدراسة في جامعات أميركا أفضل. بعدها سافرت إلى أميركا حيث تخصّصت في زراعة الكلى. ثمّ قرّرت أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي المكان الأفضل لتستكمل دراستها، وتدخل سوق العمل من أوسع أبوابه. وتدرّجت إلى أن باتت أستاذة مساعدة في كليّة الطبّ بجامعة براون في ولاية رود آيلند.
تأشيرة المتفوّقين
لم تفكّر رشا علويّة في إكمال مسيرتها العلمية في طهران، ولا في أصفهان، ولا في مشهد، ولا في قم، حيث المراقد الدينية المقدّسة بالنسبة لها. لم تذهب إلى بلاد “الملائكة” والحوزات العلمية والشهداء والعلماء و”أشرف الناس”. بل حين قرّرت أنّ بلادها ضاقت عليها، بالعلم والمال، تقدّمت بطلب الحصول على تأشيرة من بلاد “الشيطان الأكبر”.
حان أوان المصالحة مع العالم. وأن نعترف أنّ الإيمان الغيبيّ حقٌّ لنا. من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وأنّه لا يمكن أن نفرض معتقداتنا بالقوّة
لم تكن أميركا ضنينة أو بخيلة عليها. أعطتها تأشيرة تُمنح للمتفوّقين وذوي المهارات العالية. لم تعايرها أميركا بهويّتها، أو بمذهبها وطائفتها، ولا سألتها عن ميولها السياسية أو حجابها أو معتقداتها السياسية والدينية. أعطتها التأشيرة، ووظيفةً، وجعلتها أستاذة في جامعاتها، ونقّلتها بين بوسطن وواشنطن وأوهايو ورود آيلند.
بين ولايات “الشيطان الأكبر”، في خطاب “الحزب” الذي تحبّه، تنعّمت ابنة مارون الراس، بالعلم والمال ودلال الحلم الأميركي. ذلك الحلم الذي توسّع إلى حدّ أنّها، هي ومئات الآلاف من العرب والمسلمين هناك، كانوا يعرفون أنّهم يستطيعون أن يحملوا صور أعداء أميركا في الجامعات، ليهتفوا لهم ومعهم ضدّ رئيس أميركا. في حين لا يجرؤون على مواجهة مختار أو عضو بلدية أو حتّى “رابط” في قراهم الجنوبية والبقاعية.
رشا علويّة
العلوم… والإيمان
تختصر رشا علويّة أزمة بعض شيعة لبنان والمنطقة. بين هويّتهم الضيّقة، والعالم الواسع الذي يريدون أن يعيشوا فيه. بين رغبة أبناء هذه البيئة الحزبية في أن يكونوا جزءاً من هذا العالم “الغربيّ”. يستعملون هواتفه ويركبون سيّاراته وحتّى يشترون أسلحته، وفي الوقت نفسه يريدون محاربته وتحطيمه… من “الانتصار الإلهي” إلى “الهزيمة”. تلك التي وقعت بـ”الحزب” في لبنان بسبب التفوّق التكنولوجي الأميركي والإسرائيلي، الغربي عموماً. وبسبب التخلّف التكنولوجي والعلمي والاجتماعي الذي يحيط بنا من كلّ جانب.
هؤلاء الذين خرج من بينهم من يريد أن يهزم أميركا، باستعمال أسلحتها. من يحضّرون لهزيمة إسرائيل، من خلال أجهزة تبيعها إسرائيل لهم… باختصار، من يريدون أن يأخذوا المنتجات الحضارية الغربية، لاستعمالها في تدمير هذا الغرب والسيطرة عليه.
رشا علويّة، المحجّبة، نقلت مجلّة “بوليتيكو” عن لسانها أنّها تناصر “السيدّ” لكن “من منظور ديني فقط”. وبالتالي فهي جزء من منظومته الدينية والعقائدية. أي أنّها تؤمن بأنّ الإمام المهدي، الذي “غاب” قبل 1,200 عام تقريباً، سـ”يظهر” قريباً ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً. ويهزم أعداء الإسلام والمسلمين، ويقتلهم. وبحسب هذا الإيمان فإنّ الدولة المركزية لهؤلاء الأعداء هي الولايات المتحدة الأميركية. والدولة المركزية لجنود الإمام، هي إيران.
كانت رشا علويّة واحدة من كثيرين وكثيرات قرّروا حضور التشييع ليكونوا جزءاً من الرسالة
لكنّ رشا علويّة في الوقت نفسه تدرس العلوم الوضعية والتجريبية، في أميركا نفسها. في بلاد الأعداء “من منظور ديني”. في جامعاتها. في مختبراتها. حيث تعمل وتتقاضى راتباً. تلك البلاد التي قدّرتها عالياً، وأعطتها تأشيرة دخول باعتبارها طالبة متفوّقة.
رشا و”فصل الدّين عن السّياسة”
في التحقيق معها، تبيّن أنّ رشا علويّة تملأ هاتفها بصور نصرالله والمرشد علي خامنئي. وحين سألها المحقّقون الأميركيون عن الصور، أجابت: “هذا شائع بين الشيعة في بلادي. لا علاقة للسياسة بها. إنّه أمر دينيّ فقط. فهو شخصيّة كبيرة جدّاً في مجتمعنا”.
لكنّها قبل يومين من وصولها إلى أميركا، حذفت العديد من الصور. هذا حقّها. وخيارها. فلماذا حذفتها؟
لا شكّ أنّ رشا علويّة شديدة الذكاء. هذا واضح في إجاباتها. هي التي تؤمن بمنظومة إيران الدينية والعقائدية، وولاية الفقيه، “من منظور ديني فقط”. لكن غاب عنها أنّ إجابتها، مجازيّاً، تهدم كلّ هذه المنظومة. لأنّها تقوم على أساس نظريّ “يفصل الدين عن السياسة”. وهي قاعدة كفيلة بهدم أسس كلّ التنظيمات والأحزاب الإسلامية والجهادية.
وتشييع الأمين العامّ لـ”الحزب”، الذي قطعت 11 ألف كيلومتر بالطائرة لتحضره، كان إعلاناً سياسياً، إلى الداخل والخارج. لم يكن تشييعاً دينياً. وكانت الرسالة منه أنّ “الحزب” قويّ ويتمتّع باحتضان شعبي كبير وقادر على المواجهة السياسية والعسكرية والشعبية. طبعاً بوجه منظومة “الشيطان الأكبر” الأميركية. وفي كلمته خلال التشييع، وصف الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم أميركا بأنّها “الطاغوت الأكبر”.
كانت رشا علويّة واحدة من كثيرين وكثيرات قرّروا حضور التشييع ليكونوا جزءاً من الرسالة. ولتكبيرها. وقد وصلت الرسالة. وواحدة من الإجابات عليها، من بلاد الشيطان الأكبر، منع رشا من دخول البلاد التي تريد منظومتها “الدينية فقط”، هزيمتها وتدميرها.
تختصر رشا علويّة أزمة بعض شيعة لبنان والمنطقة. بين هويّتهم الضيّقة، والعالم الواسع الذي يريدون أن يعيشوا فيه
أزمة الهويّة… وعداؤنا للعالم
هذا النصّ هو رسالة صادقة لرشا علويّة. ولكلّ رشا علويّة، أو علي علويّة (بالإذن من حسين قاووق):
حان أوان المصالحة مع العالم. وأن نعترف أنّ الإيمان الغيبيّ حقٌّ لنا. من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وأنّه لا يمكن أن نفرض معتقداتنا بالقوّة. لا على أهل سوريا ولا على أهل أميركا.
إقرأ أيضاً: نقاشٌ مع الأرقام… والأوهام
وربّما حان أوان عودة الإيمان إلى داخل جدران المعابد في هذا الشرق. سواء كنّا مسلمين أو مسيحيين أو دروزاً أو يهوداً… أن نوصد الأبواب جيّداً. أن نتصرّف على أنّه “منظور دينيّ”. لا أن نقول هذا الكلام فقط في التحقيقات، بالمطارات الممنوعة علينا. لأنّه بات يمنع عنّا تأشيرات الخروج من هذه المعابد، ومن بلادها، بلاد الخراب والمهانة، إلى أرض الله الواسعة.