–
منذ انطلاق الثورة السورية، باكراً في عمرها، بدأ التأسيس لذاكرة الدم، ونحن شعوبٌ في الأساس تعيش في الماضي، ولا تريد أن تنسى، شعوبٌ نحمل الماضي على كاهلنا مثل سلحفاة، مسيرتها نحو المستقبل تحرق قروناً من السنوات من دون أن تتقدّم، حتى تصير المسافة بينها وبين الركب الإنساني لا تقاس.
منذ 14 عاماً والشعب السوري يكرّس تبعيته للماضي في جوانبه المظلمة، دفع أثماناً باهظة في مقارعة الاستبداد، وفي سبيل نيل حريته ودفاعاً عن كرامته، لكنه لم يُنجز ثورته كما كان يرجو، على الرغم من الإنجاز الكبير في سقوط الطاغية. للثورة أهداف ومبادئ وقيم.
في الواقع، ازدادت حياة الناس بؤساً وفاقةً، وزيادة على ذلك عمّت الفوضى، وعُدنا إلى المربع الأول، وكأن نظام الأسد لم يسقط، بل الذي سقط آخر المشاعر والقيم الإنسانية.
سورية اليوم في أكثر مراحلها ضعفاً، وتحدّيات داخلية وخارجية كثيرة تقف في وجه بناء الدولة السورية، ولن يسلّم داعمو النظام الساقط الإقليميون بالهزيمة، على الرغم من الضربة التي تلقّوها، بل سيحاولون الانقضاض على سورية الوليدة وإثارة الفوضى فيها. لذلك كانت أدواتهم جاهزة للتحرّك في لحظةٍ ما، وهذا ما حدث في الساحل السوري، وجرى قتل كثيرين من عناصر الأمن العام، وهذا مرفوضٌ ومُدان، لأنه جهاز دولة، منوطٌ به حماية الأمن والسلم الأهليين، لكن مواجهة هذه الحالة من التمرّد لا تكون بفسح المجال لفصائل متطرّفة إلى هذا الحدّ، تضم أعداداً من المقاتلين الغرباء عن المجتمع السوري، من جنسياتٍ عديدة، بأن تواجه البيئة كلها، مستبيحةً أمن الساكنين في حياتهم وممتلكاتهم، ولا بإعلان النفير العام والدعوة إلى الجهاد من على منابر المساجد، فالظرفُ لا يحتمل مزيداً من المواجهة الطائفية، وكثير من الشعب السوري لم تلتئم جراحُه، ولم تنصفه العدالة الانتقالية بعد.
كأن سورية عادت عقداً إلى الخلف، قتل طائفي، ترهيب، بل حتى طيران يلقي ما يشبه البراميل المتفجرة
يعيد المشهد نفسه، وكأن سورية عادت عقداً إلى الخلف، قتل طائفي، ترهيب، بل حتى طيران يلقي ما يشبه البراميل المتفجرة، وصوّر هذه المشاهد من نفذ القتل، كما كان جيش النظام البائد والفصائل الرديفة يمارسون، كذلك التهجير، فأمام هذا العنف المنفلت هجّ مئات من الساكنين، هام قسم كبير منهم في البراري من دون وجهة، يبحثون عن النجاة فحسب.
أين المشكلة؟ بل أين المعضلة، ما دام أن الحروب الأهلية تتكرّر في سورية؟ ربما يمكن القول إن المشكلة تكمن في شكل الدولة، وفي شكل المجتمع السوريين، سورية البلد متعدّد الطوائف والإثنيات، لا يمكن أن تتعايش هذه التعددية وتعيش في وطن يشعر معه أبناؤه بالانتماء إليه والدفاع عنه والسير به ليواكب ركب الحضارة الإنسانية، من دون أن تكون هناك دولة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، لها دستور يشارك الجميع في صياغته، دستور يجعل الكرامة الإنسانية أعلى قيمة ومنطلق الحقوق لكل المواطنين، ويرفع من شأن الحرية، حرّية القول، حرّية العقيدة، حرّية التعبير عن الخصوصية الثقافية من دون فرض قيم ومبادئ أي طرف، مهما بلغ تعداده في الخريطة البشرية السورية، على أطراف أخرى.
تحت خيمة الحرية بحماية القانون، ربما يستطيع المجتمع أن يتأمل موروثه الثقافي بطريقة أخرى عوضًا عن التمسّك الأعمى به مهما حمل من سرديات متراكمة عبر تاريخ من الحروب والانكسارات، فيتصالح مع نفسه، ومع فكرة العيش في دولة مواطنة تقوم على القانون والمؤسّسات، فهل يمكن الحديث عن دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسّسات من دون الحديث عن الديمقراطية؟ إذا لم تتوافر الفرص أمام جميع شرائح المجتمع كي تكون فاعلة ومشاركة في صنع القرارات المتعلقة بتنظيم الحياة في الداخل، ورسم السياسات الخارجية، فسوف تبقى سورية تحت تهديد أخطار القلاقل التي تهدّد السلم الأهلي واستقرار المجتمع.
تحتاج سورية إلى مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية، وقائم على الحقوق. لقد أدّى النظام الشمولي الذي سيطرت فيه الدولة بإحكام على المجتمع والأفراد، وسعت إلى إضفاء أيديولوجية على المجتمع بأسره بالقوة، إلى تخريبٍ كاملٍ للهياكل السياسية والمؤسّسية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، وروّجت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمرة، بتشجيع الهويات الضيقة والانتماء إلى الجماعة، سواء الطائفية أو القومية، وعزّزت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمّرة، بتشجيع هذه الهويات الضيقة والانتماءات، ما أدّى إلى جعل المجتمع السوري جاهزاً للاشتعال كلما توافرت الظروف الملائمة، زاد في هذه الحرائق المدمّرة ما تعرّض له الشعب السوري من قتل وعنف بمختلف أشكاله في سنوات الثورة، عدا وصف كل من ثار في وجهه بالإرهاب، وتمكُّن بعض الفصائل السلفية الجهادية من بعض المناطق في سورية، وتعزيز فكرها وطرق إدارتها المناطق التي تسيطر عليها.
يكمن التحدّي في سورية في إيجاد طرق لبناء مجتمع مستدام، بعد تغيير النظام، أكثر عدلاً، وديمقراطي، ومتطوّر، وآمن للناس وحقوقهم
إذا أضفنا صفة أخرى إلى النظام الشمولي الذي أدار به البلاد حكمُ الأسد، صفة الاستبداد، نفهم لماذا ترفض شرائح من الشعب السوري التسامح مع التعبير العلني عن الخلافات السياسية الكبيرة، فهذه إحدى مخرجات الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
لكن هل يصبح الوضع أسهل بمجرّد سقوط النظام وانتهائه وانتقال سلطة الدولة إلى الحكومة الجديدة؟ بالطبع لا، فهذا مرتبط بمسألة كيفية الحكم في هذه المرحلة. إنها مسألة فهم أنه لا يكفي إسقاط النظام القديم. للنظام قواعد، وجذوره وقوته المؤسسية لا تختفي لمجرّد اغتيال أو سجن أو فرار إلى الخارج. هناك سببٌ وراء الطريقة التي يتم بها تشكيل القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والسياسية في نظامٍ ما، ووراء الطريقة التي يتم بها الحفاظ عليها، على الرغم من التوترات الداخلية والمصالح المتباينة، وما جرى في سورية بعد دخولنا في الشهر الرابع من سقوط النظام، أن الدولة تديرها حكومة انتقالية، يمكن القول إنها من لون واحد، قد يكون له مبرّراته كمرحلة انتقالية، لكن الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة المؤقتة ضرورة ملحّة، فأمام الحكومة مشكلات كبيرة: دفع رواتب الذين يعملون في الحكومة بانتظام، والتعامل مع النزاعات بطريقة مختلفة وأكثر عدلاً، وتعويض ضحايا الجرائم والانتهاكات السابقة، خاصة بعد تفعيل العدالة الانتقالية، وإقامة تحالفات جديدة مع الدول وقطاعات الأعمال الأخرى، والحفاظ على القانون والنظام، لقطع الطرق على الذين يحاولون استغلال الفراغ السياسي، والذين يحاولون القيام بأفعال إجرامية، تنشط بشكل كبير في ظروفٍ مشابهة.
جرى إشهار الإعلان الدستوري أخيراً، فأحدث ضجيجاً وسجالاً حامياً على مستوى القاعدة الشعبية، وهذا صحّي، فلدى سورية ما يكفي من الكفاءات من رجال ونساء يمكنهم قراءة هذا الإعلان قراءة نقدية، وتحليله وبيان ما يقدّم من ضمانات لأهداف الثورة التي قام الشعب بها، أو مدى افتراقه عنها. وبحسب هذه الشريحة من المنتقدين، من حقوقيين وغيرهم، لم يكن هذا الإعلان الدستوري المرجو والمنتظر، بل يؤسس لسورية مغايرة عن التي طمح ببنائها معظم الشعب السوري.
لدى سورية ما يكفي من الكفاءات من رجال ونساء يمكنهم قراءة الإعلان الدستوري قراءة نقدية
من نافل القول إنه بعد فترة من الصراع الداخلي، كما وقع في سورية، وبعد التدهور الاقتصادي وانعدام الأمن السياسي والضغط الدولي، بدأ السكان، بعد أن عاشوا فرحتهم بسقوط النظام،، يطمحون إلى رئيس دولةٍ قادرٍ على تحقيق الاستقرار والنهوض بالبلاد، لكن هذا الأمر تواجهه تحدّياتٌ كبيرة، ويكمن التحدّي بشكل أساسي في إيجاد طرق لبناء مجتمع مستدام، بعد تغيير النظام، أكثر عدلاً، وديمقراطي، ومتطوّر، وآمن للناس وحقوقهم، كذلك معاقبة مجرمي النظام السابق، بما تقتضي العدالة، ومواجهة الحركات القتالية التي تهدّد الأمن المجتمعي، كما حصل في الساحل السوري، إنما عن طريق أجهزة الدولة الوطنية، وليس بترك الفصائل تتدخّل فتستبيح أمن السكان وتضرم الكراهية والثأرية.
وما دام أن هذا الأمر وقع ولا مكان لنكرانه، بل أقرّ به الرئيس أحمد الشرع، وقال إن “بعض الانتهاكات وقعت” وشكّل لجنة تحقيق، كان من المفيد أكثر لو ضمّت شخصيات من الخارج، من أجل الموضوعية المطلوبة، وإحالة المرتكبين إلى القضاء، فإن ما تقتضيه المرحلة بعد الإعلان عن هذه اللجنة هو الإنصاف المرجو والموضوعية في تقويم الوضع، وينتظر أيضاً عرض كل المقاتلين الذين أثاروا الفوضى، ممن يطلق عليهم “فلول النظام” وقتلوا عشرات من رجال الأمن العام، ليعرف الشعب مدى الخطورة التي تتربّص به، ويعرف أن الدولة تحمي الجميع. لكن سؤالاً مقلقاً يطفو اليوم، بعد الإعلان الدستوري الذي يرسم هوية الدولة والمجتمع السوريين خمس سنوات على الأقل في مرحلة انتقالية، عن مدى احتمال استقرار المجتمع في هذه الفترة، في ما لو لم تتم معالجة المشكلة من جذورها، والخروج على الناس بكل شفافيةٍ بعرض الواقع بكل ملابساته، كي لا تتكرّر هذه المأساة الإنسانية، ولا تتوسّع الاضطرابات التي تزيد من تفتيت المجتمع الذي يعاني، أساساً، هشاشة خطرة.