التفكير بالعدالة في سوريا مسألة صعبة ومعقدة ومتورطة في تحديات كثيرة تعتاش على الانقسامات الأهلية وسؤال المستقبل والعيش المشترك. فلا يمكن طرح سؤال العدل بمعزل عن هذه الأسئلة والتحديات، وهو ما يدفعنا للتفكير في العدالة بطرق استكشافية وتجريبية أكثر من كونها تقريرية حول «طبيعة العدل».
من الجيد البدء بالمسألة الأكثر وضوحاً وبداهة، وهي أن لا شيء سوف يُعيد الموتى إلى أحبائهم وأهلهم؛ لن يعود الضحايا إلى ما كانوا عليه قبل أن يحصل ما حصل، لن تعود الأجساد والمنازل المُستباحة والمحطمة إلى سابق عهدها، ولن يعود الأبناء المفقودون إلى أهاليهم الذين عليهم إكمال حياتهم غير العادلة بجراحها وأحزانها حتى النهاية، مع قليل من المواساة والعزاء. المسألة بديهية وواضحة، لا شيء سوف يعود كما كان، ما انكسرَ قد انكسر والذين ذهبوا لن يعودوا. هذا الأمر البديهي يُقدم تفصيلاً مهماً، وهو أن العدل هنا لا يعني عودةً إلى وضع سابق قبل وقوع الشرّ، إنما هو مزيجٌ من العقاب والتعويض من أجل المستقبل، من أجل منع -قدر الإمكان- حصول ما حصل مرة أخرى. فمُعاقبة القاتل لن تُعيد للثكلى فقيدها، لكنها مزيجٌ من العقاب والتعويض والإقرار بما وقع على الضحية من أجل منع مثل هذه الجريمة من أن تقع مرة أخرى. هذه المسألة على بَداهتها، تحتاج للتذكير بها، حتى يتضح أن ما يُضمره سؤال العدل والعقاب هو المستقبل بالإضافة إلى تعويض الضحية. العدل الذي يُفترَض منذ البداية امتناعُهُ الواقعي حقاً، إلا في الأعالي حيث يجتمع الناس عند ربهم.
بهذا المعنى يمكن أن نتساءل عن كيفية تحقيق العدل، بأفضل ما يمكن، في سوريا مع ما حصل فيها من جرائم مهولة وممتدة، جرائم تتفاوت مستوياتها من الإبادة والتطهير والاغتصاب حتى جرائم التعذيب والقتل الفرديين. كيف لنا أن نتعامل مع كل هذا الإرث من المقتلة التي شاهدناها لسنوات؟
هل العقاب هو الوسيلة الوحيدة لإحقاق العدل؟ هل نُعاقب كل من تلوثت يداه بالدم؟
المقاربة العقابية الشاملة تواجه العديد من الصعوبات في سوريا، بما يجعلها غير ممكنة. فمن شاركَ في الجرائم من السوريين هم أعدادٌ مهولة حقاً، ينتمون إلى الأطراف المتصارعة جميعها. غير أن الجرائم جرائمُ على أية حال، دون أن يعني هذا أن نضع الجميع في خانة واحدة، أن نساوي بين نظام الأسد وبين من ثار عليه. وأيضاً يجب الاعتراف أن الجرائم، أيضاً، سويّات. فجرائم الإبادة والتطهير والتعذيب في صيدنايا لا يمكن قياسها مع جرائم فردية أو نهب هنا وهناك. لكننا نبقى أمام جرائم، وأمام أعداد كبيرة من السوريين المتورطين في هذه الجرائم بما يجعل من فكرة العقاب الشامل فكرة خطيرة، لعدم إمكانية تنفيذها حقاً وما يترتب عليها من تدمير لإمكانية أن تقوم قائمة لهذا البلد وأن ينطلق من جديد، بل ربما تكونُ شرارة لحرب أهلية جديدة. العدلُ لا يمكن له أن يكون على حساب المستقبل، على حساب العالم وإعماره، وإلا فإنه يكفُّ عن أن يكون عدلاً. هذا هو التحدي الأول الذي علينا مواجهته؛ ما كمية العدل والعقاب التي يمكن لنا أن نتحملها دون أن ينهار العالم من حولنا ومن دون أن يفقد العدل معناه في الوقت ذاته؟ لا إجابة بسيطة ومباشرة على هذا السؤال، حتى إذا قبلنا مسألة محاسبة عدد محدود ومُقيَّد، والأرقام التي لدينا في التقارير تتحدث عن بضعة آلاف من الأسماء المتورطة في الجرائم الكبيرة من طرف النظام، فإن الموضوع قد لا ينتهي. فقط تخيّلوا أحدهم وقد تعرَّفَ على من اعتدى على امرأته أو شقيقته، وهذا يمكن أن يكون ضابطاً برتبة صغيرة، وما يمكن له أن يقوم به؟
هل علينا أن نُدخِلَ في حسابنا أيضاً أسماء المنتصرين؟
* * * * *
هناك جانب آخر للسؤال لا يدور على العدد وحسب، إنما على الانقسام الأهلي الكامن وراء العدد. إن الأسماء المتداولة لكبار المجرمين تُقدّم لنا واقعة لا يمكن تجاهلها، تماماً مثلما تُقدّم لنا هويةُ الضحايا بدورها قرينة لا يمكن تجاهلها، على دور الانقسام الطائفي والأهلي في الحرب. الحضور العلوي الكبير في أسماء الضباط والمقاتلين، كما الحضور السنّي الكبير بين الضحايا في حالة جرائم نظام الأسد. لا يفسّر الانقسامُ الأهلي وحده كل جرائم نظام الأسد، فقد وُجِدَ ضباط كبار من كل طوائف وإثنيات المجتمع السوري (انظر أسماء الممولين والبيروقراطين من أصول سُنّية) في آلة الموت التي أطلقها على المجتمع السوري، مثلما كان هناك علويون كثر بين الضحايا وممن دفعوا أثماناً هائلة لمعارضتهم على مرّ عمر النظام الأسدي. غير أنه لا يمكن تجاوز البعد الطائفي-الأهلي في الجرائم التي حصلت، في حرب أهلية كان للبُعد الطائفي دورٌ كبيرٌ فيها. يمكن وضع المسألة على الشكل التالي فيما يخص جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد: العلوي الذي قَتَلَ فَعَلَ هذا لأنه يتصرف على أساس من العصبية العلوية، والعلوي الذي رفضَ وتمرَّدَ على الجريمة فعل هذا لأنه لم ينظر لنفسه بحصرية الهوية العلوية. كذلك السُنّي الذي قُتل، قُتل في العديد من الأحيان لأنه سُنّي (مثلما حصل في الحولة والقصير)، بينما السُنّي الذي شارك في القتل إلى جانب النظام لم يفعل هذا انطلاقاً من كونه سُنّياً، فيما السُنّي الذي مارس القتل في صفوف الفصائل المتمردة فعل هذا لأنه تصرف على أساس من عصبية سُنّية.
الانقسام الطائفي وتَداخُله مع وقائع الحرب والجريمة يعني أننا أمام مجموعة من التحديات حول سؤال العدالة: عقابُ المتورطين جميعاً يعني بطريقة أو بأخرى إيقاع أذى واسعٍ بالعلويين، وهؤلاء قد يرونه بوصفه ثأراً ضدهم وليس عقاباً على ما حصل فحسب. أيضاً، هل يمكن للعلويين، كجماعة، احتمال هذا القدر من العقاب الذي سيحل على شُبّانهم؟
ثم، ما الذي نفعله مع البُعد الطائفي للجريمة، كما للعقاب أيضاً؟ ألم تكُن العصبية العلوية حاضرة في التعبئة لمواجهة المنتفضين، ولتنفيذ الجرائم وتأمين بيئة حاضنة ومُرحِّبة بما حصل! بالطبع، كان خيار النظام هو توريط العلويين بأكبر قدر ممكن في الجرائم الحاصلة، كما فعلَ عبر استدعاء ميليشيات الشبيحة من قرى علوية للقيام بفظائع مثلما حصل في الحولة، أو كما حصل في مدينة حمص حيث استخدم علويين لقمع المعتصمين عند الساعة والاعتداء عليهم. فبالتالي ألا يجب تحميل العصبية العلوية المسؤولية المعنوية عما يحصل باسمها؟ وبالتالي «إعادة التربية» وهو المصطلح الذي سبق واستُخدِمَ لوصف السياسات الثقافية والتعليمية التي طبقها الحلفاء تجاه الألمان بعد الحرب العالمية الثانية. أعتقد أن هذا ضروري بمعنى المسؤولية في بُعدها المعنوي، فيما يكون البعد الجنائي للعقاب حصراً للأفراد طبعاً. لكن مرةً أخرى؛ ما هو قدر هذا العقاب وطبيعته وطريقة تنفيذه بحيث لا يسحق إمكانية العيش المشترك؟ ولكن من دون أن يتم القفز عن سؤال العدالة في الوقت نفسه.
غير أن هذا الأمر لا يقتصر على حالة العلويين وحدهم خلال هذه الحرب، ذلك أن البعد الطائفي/الإثني للجرائم كان حاضراً لدى عامة الفصائل الإسلامية (السُنّية) المقاتلة، والقياس نفسه ينطبق هنا أيضاً. على سبيل المثال، ما حصلَ في عدرا العمالية وعدد من القرى العلوية خلال سنوات الثورة، ولاحقاً ما تعرَّضَ له الأكراد وغيرهم من المكونات في مناطق سيطرة المعارضة، والأقسى كان ما حصل تجاه الإيزيديين من جريمة الإبادة على يد الدولة الإسلامية، وهذا كله باسم عصبية سُنّية! ألا يجب تحميل العصبية السُنّية المسؤولية المعنوية عن هذا مثلما قد يحصل تجاه العصبية العلوية تطبيقاً للمعيار ذاته، وأن يُلاحَق المتورطون من أفرادها مثلما يُفترَض أن يحصل مع المتورطين من الطائفة العلوية؟ إن كان هذا مُمتنعاً بواقع النصر نفسه، هل يمكن لسؤال العدل أن يبقى سؤالاً ذا معنى دون أن ينحلَّ في عقاب المنتصر للمهزوم؟
مرة أخرى إذا نظرنا إلى التجارب المختلفة للتعامل مع أسئلة الإبادة والجريمة فإن الواقع ليس مثالياً، فمن عُوقبوا بعد الحرب العالمية الثانية لم يكونوا كَّل المجرمين، إنما المجرمون المهزومون. لم يحصل عقابٌ لأكبر عملية استباحة جنسية حصلت للنساء خلال الحرب العالمية الثانية على يد الجيش الأحمر بحق النساء الألمانيات، أو للانتهاكات التي قام بها الفيلق اليهودي تجاه الألمان، وبالتأكيد تم تناسي العنصرية والإبادات التي قام بها الحلفاء في مستعمراتهم وغيرها. لكن بالمقابل، ورغم هذا التناسي، تم جعلُ لحظة نورمبرغ لحظة تأسيسية، بمعنى أنه ومع معاقبة المجرمين على ما فعلوه تم تعريف الجريمة، وبهذا صار هذا السلوك مداناً وغير مقبول تكراره من الجميع، حتى لو لم يتم معاقبة المنتصرين وقتها على ما قاموا به. المهزومون دفعوا ثمن التأسيس القانوني للجريمة، ولم يدفعه المنتصرون، لكن التأسيس حصل وأُلزِمَ به الجميع. هذا تَقدُّمٌ في النهاية! هل يمكننا إنتاج مثل هذا التَقدُّم في سوريا حتى لو قمنا بعقاب انتقائي يدفع ثمنه المهزومون وحدهم؟ غير أن هذا يمتنع في غياب تقليد ثقافي وفكري يسمح بهذا، مع غلبة الهويات الطائفية على سوريا وانتشاء عصبية سُنّية تَرى في النصر تأسيساً لحُكمها!
سؤال العدل في سوريا سؤال تأسيسي يُحدِّد ويُعرِّف شكل سوريا المستقبل. أسئلة العدل والمحاسبة والعنف في هذه اللحظة هي أسئلةٌ تأسيسية، لا يمكن تأطيرها الآن في سياق القانون، بل إنها تقوم بتأسيس هذا القانون. لهذا فإن القفز عن سؤال العدل يخبرنا كثيراً عن سوريا المستقبل، مثلما أن طريقة إنفاذ وتحقيق هذا العدل ستُخبرنا بالكثير عن سوريا المستقبل. عملية تحقيق العدالة في سوريا نفسها من طبيعة تأسيسية، تقوم بتأسيس القانون في اللحظة التي تتحقق فيها، فلا يمكن إخضاعها مسبقاً لتصورات حقوقية حول كيفية تحقيقها انطلاقاً من معايير شكلية مُسبَقة نفترض أنها تُعرِّف الجريمة والعدل، وكأننا في دولة حصلت فيها جريمة، فيما نحن في سياق مغاير هو سياقُ تأسيس الدولة انطلاقاً من كيفية تعريفنا للعدل وتحقيقه في مواجهة لحظة الجريمة السابقة. الأسئلة التي علينا أن نطرحها هنا؛ ما هو مضمون العدل الذي نريد التفكير به؟ ما هو القانون الذي نريد تأسيسه؟ وكيف نمارس القانون؟ الإجابات المُقدَّمة والمُمارَسة عملياً هي تأسيسُ الدولة الجديدة.
* * * * *
شابَ سلوكَ السلطة الجديدة قدرٌ كبيرٌ من عدم الجدية والالتباس فيما يخصّ سؤال العدالة، بما لا يتناسب مع طبيعة العدالة التأسيسية في السياق السوري. توجد بالتأكيد أسباب موضوعية تتعلق بمحدودية قدرات وسلطات السلطة الجديدة، بما يفسّر جانباً من هذا السلوك مثل افتقارها إلى القدرة والخبرة في التعامل مع موضوع بمثل هذا الحجم والصعوبة، وضعف سيطرتها بما في ذلك سيطرتها على الفصائل المنضوية تحت إمرتها. غير أن هناك أسباباً أخرى ذاتية تتعلق بطبيعة السلطة الجديدة نفسها التي كانت طرفاً في الحرب الأهلية، وارتكبت -سواء هي نفسها أو عبر الفصائل المُلتفَّة حولها- قدراً كبيراً من الجرائم، بالإضافة إلى الطبيعة الإيديولوجية لها ولفصائلها التي تجعل من سؤال العدل مسألة ملتبسة تماماً.
في البداية كانت التسويات، وهي أمر مهم في ذاته لتأمين الجنود وصغار الضباط من موجات الانتقام المنفلتة، لكن التسويات امتدت إلى ضباط كبار لهمٌ دورٌ مشهود في الجرائم التي حصلت بما يهدر سؤال العدل. حتى أن بعض قادة ميليشيات الدفاع الوطني المشهود بارتكابهم الجرائم، أو ممولي هذه الميليشيات، عادوا ليحظوا بمواقع رسمية أو شبه رسمية. وإلى جوار التسويات هذه، غُيِّبَ الكثير من الجنود وصغار الضباط في معسكرات اعتقال دون أن يُعرَف عنهم شيء حتى الآن، ومن دون انطلاق للمحاكمات أو التحقيقات التي تشير إلى تورطهم في الجرائم. وصولاً حتى إلى غياب آلية عمل مؤسسية للتعامل مع سؤال العدالة، وتأمين المواد والمواقع التي تمسّ هذه العملية.
غير أن الأهم هو الالتباسُ الواسع في قاعدة السلطة بين منطق العدالة والقانون من ناحية، والسردية الطائفية القائمة على الانتقام والإبادة التي تشرعن نفسها عبر «مظلومية السنة» من ناحية أخرى، مُمثَّلة بجرائم الإبادة والمجازر التي تَعرَّضَ لها السوريون، وتحديداً البيئات السُنّية، على يد نظام الأسد. وعبر تَوسُّلِ خطاب «المظلومية السُنّية» أُقيمت مساواة بين نظام الأسد والطائفة العلوية، حيث تم تجريم ونزع إنسانية طائفة كاملة، فصارت هذه المساواة دليلاً على الطبيعة الإجرامية الجوهرية لهذه الطائفة. وهذا ما ظهر في الساحل مع جرائم التطهير الطائفي-الإثني تجاه العلويين لكونهم علويين، وبالتالي مذنبين سلفاً بجرائم النظام السابق.
هنا لا يعود سؤال العدل لحظةَ تأسيسٍ لمُصالحة وطنية ودولةِ قانون، بقدر ما أنه يتحول إلى مُسوِّغ لمشروع إبادة وتطهير إثني يستخدم العدالة بشكل أداتي لتسويغ الجريمة باعتبارها إحقاقاً للعدل، حيث يلعب العلويون دور كبش الفداء الذي يُحمَّل جميع الآثام لتتم التضحية به تطهيراً وتوحيداً للجماعة السُنّية، ومحافظةً على لُحمتها وعصبيتها. إن العدالة شرطٌ لازمٌ لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة خطر الاحتراب الأهلي وتفكيك خطابات الكراهية التي تستخدمه ذرائعياً، دون أن تكون العدالة نفسها شرطاً كافياً لدرء هذا الخطر.
ومن جانب آخر، يلعب سؤال العدالة أيضاً دور أداة لفرض وترسيخ سلطة السلطة الجديدة، أداة للهيمنة والتسلط بما يذكر بسلوك نظام الأسد السابق حيث يتم شراء الإذعان والخضوع باسم الحماية والأمن وضبط الآخرين الأشد تطرفاً وتهوراً. بالمقابل، يتم تقديم السلطة لجمهور الأكثرية على أنها تعبيرٌ عنهم والضمانة لحماية حقوقهم واستردادها.
بعد مجازر الساحل يَظهرُ أن سؤال العدل قد يتحول إلى أداة من أدوات الضبط والسيطرة، والتأسيسُ المتدثّرُ بسؤال العدالة يصبح عندها تأسيساً لنظام ذي نزوع فاشي وسلطوي، مثلما هو تمييزي تجاه الآخرين مع تَصوُّر استنسابي للعدل بما يُلغي معناه. تحت ستار العدل تظهر استراتيجيات الملاحقة الدائمة والقمع للآخرين بذريعة الفلول وملاحقتهم، وهو ما يَؤول إلى تجربة قريبة منا وهي العراق، حيث انتهى العدل إلى انتقام قانوني وتمييز وإخضاع يحمل معه كافة شروط الحرب الأهلية التي انفجرت لاحقاً. وحتى الانتصارُ في الأخيرة لم يأتِ بدولة قانون، إنما دولة تتناهُبها الميليشيات والفساد. وبعد ما حصل في الساحل في ظلِّ سلطة العهد الجديد، صار سؤال العدالة واحداً لا ينفصم، لضحايا نظام الأسد ولضحايا مجازر الساحل من العلويين، وإلا فإننا في مواجهة تَحوُّل العدل إلى انتقام قانوني، فنفقد بهذا فرصة تأسيس دولة القانون انطلاقاً من سؤال العدالة.
* * * * *
التحدي السوري أمام سؤال العدل هو كيف لنا أن نُعرِّف العدل ونُحدَّدَ طرائق إنفاذه دون أن نُسحَق تحت ثقله، ولكن في الوقت نفسه أن لا نتجاوزه بذريعة ثقله الذي لا يمكن لنا احتماله بما يُفوِّتُ علينا إمكانية المصالحة الوطنية والتأسيس لعهد جديد. بدون عدل تبقى شروط الاحتراب الأهلي والكراهية حاضرة في انتظار جولة جديدة، ولا يمكن مُداراتها إلا عبر القمع. ومن جانب آخر، لدينا خطرُ تَحوِّل العدل إلى أداة في مشروع سلطوي. عندها، فإننا نُفوِّتُ على أنفسنا فرصة التأسيس لعهد جديد يجعل مما حصل أمراً لا يمكن أن حصوله ثانية، وفرصة تكريس ثقافة سياسية ووطنية وأخلاقية تمنع الجريمة من التكرار. من دون هذا التأسيس يبقى ما حصل أمراً عادياً لا شيء يمنع حصوله مستقبلاً، طالما أن كل شروط إعادة إنتاجه بقيت دون أن تُمَسّ.
لكن، هل السلطة الحالية قادرة أو جادة أو حتى راغبة في هذا التقدم والتعامل مع سؤال العدل ومحاذيره؟ وهي سلطة فصائل سُنّية، وهذا توصيف لا يقتصر فحسب على واقعها وتاريخها خلال الحرب الأهلية، إنما هو قائمٌ في واقع الحال وفي تَوسُّل الشرعية لديها ولدى جمهورها. الإجابة ليست مُبشِّرة إطلاقاً، وكأننا نُحدِّقُ في الهاوية!
مقالات مشابهة