من شبه المؤكد أن يثير الحديث الآن عن إمكانية السلم الأهلي في سوريا الضحك والسخرية، وسيظهر مفارِقاً الواقع بشدة؛ الواقع الذي شهد منذ قرابة شهرين أحداث عنف طائفية في الساحل، ثم في جرمانا وصحنايا والسويداء على التوالي. ومن المؤكد أن عوامل الثقة بسلطة المركز قد تراجعت لدى نسبة عظمى من الأهالي، تحديداً الذي ينحدرون من المذهب العلَوي أو الدرزي. ففضلاً عن المجازر شهدت المناطق المذكورة تنكيلاً (موثَّقاً بفيديوهات) على أساس طائفي صريح، وواكب أنصارُ السلطة تلك الانتهاكات على السوشيال ميديا بالاحتفال بها والتحريض عليها، وبضجيج عالٍ يوحي بأنهم يمثّلون أكثر من قيمتهم في المجتمعات السورية.
السلم الأهلي ممكن؟
نعم، إنه ممكن رغم الآثار الفظيعة لما سبق، ولما سبقها منذ عام 2011 حتى اليوم. هو ممكن أولاً فيما لو انطلقت السلطة وأنصارها من الواقع، لا من فرضية تتعالى على الواقع. الواقع، غير المحبَّب لكثر، هو أن هذه السلطة يوم سقوط بشار ورثت عنه أماكن سيطرته. هذا هو الكلام الحرفي الفجّ الذي لا يُراد الانتباه إليه؛ السلطة لم ترث سوريا كما كانت قبل آذار 2011، بل ورثت سوريا مقسَّمة (بكل ما لهذه الكلمة من معنى) إلى خمس سوريات دُمجت ثلاث منها تحت سلطة المركز في دمشق.
كمثال على أن الأمر لم يحدث بسهولة وسلاسة، لا تزال هناك مؤشرات عديدة على أن تركة حكومة الإنقاذ في إدلب لم تندمج في النظام الأساسي للدولة المعمول به في المناطق التي كان يسيطر عليها الأسد. في غياب الشفافية، هناك أخبار غير رسمية عن عقود توظيف جديدة بموجب سقف الرواتب لدى حكومة الإنقاذ، وهو أعلى بمرات من نظيره في قوانين المركز. ومن المعلوم أن سجون إدلب لم تُفتح كما حدث في السجون التي كانت تحت سيطرة الأسد، ولا تُعرف حتى الآن مصائر السجناء فيها أو وضعها القانوني ضمن وزارة الداخلية في دمشق.
إذا كانت هناك فئات قد توهّمت أن سقوط بشار يعني تلقائياً عودة سوريا إلى ما قبل آذار 2011، فالأولى بالسلطة أن تكون أكثر إدراكاً للواقع. وإذا كان أنصارها يعتقدون أن لها شرعية، لمجرد إسقاط الأسد وتسلّم السلطة مكانه، فهذا وهْم يُضاف إلى الوهم السابق. ما يمكن تأكيده أن السلطة كانت في أفضل حالاتها، من حيث القبول بها، عشية إسقاط بشار. لكن الظنّ أن الأخير وحده هو المشكلة يتجاهل انقسامات السوريين، وواقعهم المعقّد الذي لا تساعد في معالجته أفكار تبسيطية مسبقة.
السؤال الأول الذي يجدر التفكير فيه: هل المُراد حقاً إعادة توحيد سوريا؟ أم إعادة إخضاعها؟ وما الذي يريده دعاة وحدة سوريا؟ هل يريدون السوريين باختلافاتهم وتنوعاتهم؟ أم يريدون فرض هيمنتهم على الأراضي السورية من دون اعتبار للسوريين أنفسهم؟
الأمر لا يتعلق فقط بطوائف أو إثنيات، كما توحي الأحوال الراهنة في الساحل والسويداء والجزيرة. إنه سؤال المشاركة العام، فيما لو كانت السلطة راضية بالمبدأ، ولا تسعى إلى إخضاع الجميع، بدءاً من الأكثرية العددية التي لم تنتخبها لتكتسب شرعية دستورية. أبعد من ذلك، رواج الحديث في آخر شهرين عن فصائل غير منضبطة يطعن فيما سُمّي “شرعية ثورية” قامت على تعيين الشرع رئيساً انتقالياً، بالتزامن آنذاك مع إعلان حلّ الفصائل ودمجها في وزارة الدفاع. هذه الفوضى الفصائلية، التي يُحكى عنها، تفتح الباب على مصراعيه أمام مطالبات الأمن الذاتي، وتعيق تالياً سعي السلطة المحموم لاحتكار السلاح، فيتعذّر احتكاره سلماً، وتكون النتيجة الحتمية هي الاصطدام المسلّح بمواكبة السعار الطائفي كما شهدنا.
في الأصل، لا يوجد سلم أهلي بالقوة، فالأخيرة يُفترض أنها تُستخدم ضد الذين يمنعون السلم، لا من أجل فرضه بالقوة على مجتمعات تطالب بأن تكون شريكة فيه. وكان يمكن لفصائل محلية أن تكون جزءاً من السلاح الحكومي لو أظهرت السلطة رغبة جادة في التشارك مع المجتمعات المحلية هنا وهناك، واعتمدت منطق الاحتواء لا الاحتكار، حيث يمكن لهذه الفصائل أن تقطع رحلة الاندماج الكامل مع التقدم في عملية تشاركية ذات مستويات عديدة، وغني عن القول أنها ستكون عوناً للسلطة في محاصرة ما يُسمى “فصائل غير منضبطة” إذا كانت كذلك حقاً.
لقد قوبلت السلطة إثر إسقاط الأسد بترحاب واسع، حتى من قبل مجتمعات ما كانت إلى وقت قريب لتقبل بفكرة وجود سلطة ذات ميول إسلامية سلفية، وكان الأمل لدى شرائح واسعة أن تشجّع مقتضيات الحكم النزوعَ نحو الاعتدال. الذين حاولوا مساعدة السلطة، بدءاً من الساحل، لم يفعلوا ذلك حباً بها أو بأيديولوجيتها، بل لأنهم غلّبوا المصلحة العامة على أهوائهم، وهذا ما كان حريّاً بالسلطة فعله أيضاً.
ويُفترض أصلاً بالسلطة أن تسعى لإشراك ما يُتاح من أفراد المجتمعات للحفاظ على السلم الأهلي، مع التنويه بالحالة السورية الخاصة لجهتين، الانقسام المديد من جهة، وآثاره على الجميع بمن فيهم السلطة نفسها من جهة ثانية. ولا يخفى أن نسبة كبيرة ومتزايدة من المسؤولين لم يعش أفرادها لوقت طويل في سوريا الموحَّدة، أو لم يتح لهم ذلك، وهو ما تزداد حدّته مع الجيل الجديد الذي انقطعت حياته العادية بمقتضيات الانقسام.
الأقرب إلى الواقع حتى الآن هو الحديث عن الحفاظ على السلم الأهلي، لا عن اصطناعه، فالحوادث الفردية حقاً كانت طوال الوقت قليلة جداً وغير ذات شأن حتى شهر آذار الفائت. وما يُشاع عن انقسام طائفي فيه مبالغات فادحة بالمقارنة مع الواقع، فالاختلاف الديني أو الطائفي ليس وحده ما يرسم خطوط التنوع الاجتماعي في سوريا، لا لوجود نسبة من عابري هذه الخطوط فحسب، بل لوجود تمايزات وخصوصيات محلية ذات وزن وتأثير لا يُستهان بهما. يمكن مثلاً الحديث عن خصوصية حلبية ينضوي فيها عرب وأكراد والعديد من الطوائف المسيحية والأرمنية، وكذلك حال خصوصية حوران بسهله وجبله معاً، أو خصوصية المنطقة الساحلية ومنطقة الجزيرة.. إلخ.
هذه المجتمعات، المتمايزة مناطقياً، قادرة على صون سلمها الأهلي بحكم عيشها المشترك لأزمنة طويلة، وأهلها هم الأقدر على إدارة شؤونهم بما لا يتنافى مع وحدة التراب السوري. السلم الأهلي والتشارك يعنيان في الحالة السورية قدراً ضرورياً من اللامركزية، وأن يُعقد مؤتمر وطني حقيقي يتبادل فيه السوريون وجهات النظر والتنازلات الضرورية لاجتماعهم السياسي. مثل هذا التوافق هو الذي من شأنه أيضاً وضع تصورات مشتركة للسياسة الخارجية، إذ إن مظهراً من المظاهر المعتادة للانقسامات الأهلية أن يصبح لكل جماعة سياستها الخارجية الخاصة، وهو ما حدث في سوريا بعد انطلاق الثورة.
ولا يخفى، إلا على الذين يريدون تجاهل ما سبق، أن قسطاً وافراً من التوترات الحالية مرتبط بخطوات استئثار اتخذتها السلطة، بدءاً من مؤتمر حوار وطني شكلي، مروراً بإعلان دستوري يكرّس هيمنة مطلقة، وصولاً إلى تشكيل حكومة تسيطر فيها هيئة تحرير الشام على مفاصلها الأساسية والحيوية، وهو ما راح يتفاقم مع توغل “الهيئة السياسية” للسيطرة على مستويات إدارية عليا ومتوسطة. الاستئثار بالسلطة والتمسك بالمركزية المفرطة هما صنوان في العالم كله، وفي أصل ثورة السوريين أنهم خرجوا ضد الاستئثار بالسلطة الذي امتدّ ليكون هيمنة على الفضاء العام كله. أي أن مشاركتهم المطلوبة الآن ليست منّة، بل دُفع ثمنُها غالياً.
إن كان هناك ما يدعو للتفاؤل في سوريا فمبعثه تلك الملايين، وهي أكثرية حقيقية، من السوريين الذين لا يريدون تعاطي كبتاغون الطائفية والعنصرية، ويريدون لأولادهم حياة عادية أسوة بكل البلدان التي تُحترم فيها كرامة أبنائها. بالطبع، ثمة مسؤوليات متدرجة في موضوع السلم الأهلي، إلا أن العبث فيه لم يأت يوماً من الضعفاء، وعلى السلطة مسؤولية أكبر بحكم موقعها، فلا يصحّ أن تتصرف كطرف ثم تقول إنها تمثّل الجميع.
increase
حجم الخط
decrease