*”قال تعالى: ((لإيلاف قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْف)) (الفيل: 1ـ4).
*يمن الله تعالى على قريش بالكثير من النعم الباهرة ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه، ويذكرهم بهذه النعم ليستجيش الحياء في نفوسهم فيكفوا عن عبادة الأصنام وينصاعوا لعبادة الرحمن وحمل رسالة الإسلام إلى الأنام.
وأول هذه النعم هي أن حادثة الفيل كانت من أجل الحفاظ على وجودهم والحفاظ على وحدتهم.
وثاني هذه النعم الأمن والسلامة في رحلاتهم التجارية التي هي عماد الاقتصاد في مكة مع كون الجزيرة العربية يومها لا تعرف هذا الأمان بل كان السائد فيها هو الغزو والسلب والسبي.
وثالث هذه النعم أنه تعالى حرم مكة على لسان إبراهيم عليه السلام وحافظ على حرمتها مع كون سائر القرى في جزيرة العرب غير آمنة في نفس الفترة.
ورابع هذه النعم الأمن الغذائي الذي كانت تعيشه مكة نتيجة الرحلات التجارية وموسم الحج في كل عام.
وتلخيص هذا الذي قلناه بمصطلح العصر هو القضيتين العالميتين اللتين هما الشغل الشاغل للناس في العصر الحديث: الأمن والغذاء.
*فقوله تعالى: (لإيلاف قريش). قيل: إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى، والتقدير: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش، يعني: لتأتلف وتتفق قريش، وقيل: لكي تألف قريش فتؤمن رحلتيها. وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا. وقيل: جعل الله ذلك لإيلاف قريش، أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم. وقيل: ليست بمتصلة، لأن بين السورتين (بسم الله الرحمن الرحيم) وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى: (فليعبدوا) يعني: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف.
*وقوله تعالى: (إيلافهم رحلة الشتاء والصيف). يعني: ما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف. وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة. وقيل: الإيلاف هنا: الإجارة والحماية، يقال: آلف يؤلف إذا أجار الحمائل بالحماية. وقيل: كان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة بنو عبد مناف: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل. فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام، أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام، وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، ومعنى يؤلف يجير.
*وقوله تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت). أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لأجل منته عليهم بإيلافهم الرحلتين. وقيل: (فليعبدوا رب هذا البيت) أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين.
*وقوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). يعني: أطعمهم بعد جوع وآمنهم بعد خوف، وكان ذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) (البقرة: 126). وقيل: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك المكان الحرم كما قال تعالى: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء) (القصص: 57). وقيل: التنكير يفيد العموم، والمعنى: أطعمهم من كل جوع وآمنهم من كل خوف. والحمد لله رب العالمين.