يلقي الاتفاق الموقع بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) في حلب بظلاله على مناطق شرق الفرات، ليشكل اختباراً لحسن النوايا بين الطرفين، فمن جهة، تستمر حملات الاعتقال التي تطال ناشطين عرب في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، ومن جهة أخري، يستاء أهالي الجزيرة السورية من أن الدولة السورية، بنظرهم، لم تفِ بالتزاماتها تجاههم.
وتطبيقاً للاتفاق الموقع مطلع آذار/ مارس حول المناطق الخاضعة لتلك القوات، بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد القوات الكردية التي تسيطر على شرق الفرات، يأتي اتفاق حيي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، الموقع من اللجنتين الخماسيتين المركزيتين المكلفتين من قبل الحكومة السورية و”قسد”.
بالون اختبار
تضمن الاتفاق 14 بنداً، أهمها بحسب الباحث سامر الأحمد، البند السادس المتعلق بانسحاب الفصائل العسكرية من الحيين باتجاه مناطق شرق الفرات. ويضيف الأحمد في حديث لـ”المدن”، أنه في حال خضعت المدينة لقوات الحكومة السورية وفق الاتفاق، وتحقق الأمن في الحيين، عندها من الممكن البدء بالتوصل إلى تفاهمات حقيقية في مناطق الجزيرة السورية، أو ما يعرف بمناطق شرق الفرات ذات الأغلبية السكانية العربية، حيث تخضع هذه المناطق لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية، وعماد هذه القوات مقاتلين من الكرد، بالإضافة لمقاتلين عرب وسريان.
الخلاف العربي الكردي
تختلف الخلفيات السياسية والظروف الاجتماعية لسكان مناطق سيطرة “قسد” في الجزيرة السورية عن غيرها من المناطق السورية، وتمتد المنطقة على طول نهر الفرات شرقاً، من الحدود السورية التركية، مروراً بمدينتي الرقة ودير الزور، وصولاً إلى البوكمال على الحدود العراقية، وتتخللها منطقة عملية “نبع السلام” التي أطلقتها فصائل الجيش الوطني أواخر عام 2019، بدعم تركي، وسيطرت على مناطق شمال الطريق الدولي “M4” بين تل أبيض ورأس العين.
وتأسست “قسد” أواخر العام 2015 بدعم أميركي، بعد أيام من إعلان روسيا تدخلها العسكري في سوريا، وسيطرت على ما يزيد عن ثلث الأراضي السورية، وغالبية سكانها من العرب، مع وجود الكرد في من مدن الرقة والحسكة، إلى جانب قوميات أخرى كالسريان والآشوريين. وانحصر وجود “قسد” بعد 3 عمليات عسكرية للجيش الوطني السوري بدعم تركي هي “درع الفرات”، و”غصن الزيتون”، و”نبع السلام”.
ويعتبر المحلل السياسي محمد الحمادي في حديث لـ”المدن” أن منطقة شرق الفرات أمّ المتناقضات، فالكرد يعتبرون أن العرب محتلين لأراضيهم منذ السبعينيات، تحديداً عند إنشاء سد الفرات وبحيرة السد التي ابتلعت 525 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية والبلدات. وأطلق على أهالي تلك البلدات إسم “عرب الغمر”، وهجّروا إلى أراض تعرف بـ”خط الاستقرار 10″ شمال المحافظة، أي إلى المدن والبلدات المحاذية للحدود التركية.
ضحايا الأسد و”قسد”
ويرى الحمادي أن “عرب الغمر” هم ضحايا نظام الأسد و”قسد”، ففي السبعينيات هجّروا من قراهم بسبب سد الفرات، وبعد العام 2016، هجّرتهم القوات الكردية من أملاكهم وأراضيهم التي منحتهم إيّاها الحكومة السورية، بحجة عدم امتلاكهم لبطاقة “وافد” التي تمنحها الإدارة الذاتية الكردية لكل من يقيم في مناطق سيطرتها من خارج محافظته. وعملت تلك القوات على التغيير الديموغرافي للسكان عبر إحلال عناصر تابعين لها في القرى والبلدات وفي المدن الرئيسية بعد تهجير سكانها، خاصة دير الزور التي لا وجود للكرد فيها سابقاً. ويشير الحمادي بأن العرب يعتبرون أن معظم الكرد ليسوا من السكان الأصليين للمنطقة، وغالبيتهم هُجّروا من تركيا منتصف القرن العشرين بسبب الاضطهاد التركي لهم، وتركزوا في الحدود المحاذية لبلدهم الأم. بالإضافة لوجودهم في عفرين غرب حلب كغالبية سكانية. ويشير إحصاء عام 2004، وهو آخر الإحصاءات الرسمية في سوريا، إلى أن نسبتهم تصل إلى 5.3 في المئة من عدد السكان، فيما تشير إحصاءات غير رسمية إلى أن نسبتهم تقارب 8 في المئة حالياً.
قسد باقية شرق الفرات
لم تغيّر حكومة “شمال وشرق سوريا”، التابعة للإدارة الذاتية، نهجها في التعامل مع المناوئين لها والمناصرين للدولة السورية، وفق ما أكده الصحفي حمزة الهويدي، أحد أبناء مدينة الرقة لـ “المدن”. مشيراً إلى أن الفصائل التابعة لحكومة “شمال وشرق سوريا” تشن حملات اعتقال بحق الناشطين المناصرين للدولة السورية الجديدة، مع الاستمرار بحفر الأنفاق داخل المدينة تحت منازل المدنيين والمرافق الحيوية، وألمح إلى أن سياسة حفر الأنفاق في الرقة في ذات المواقع التي حفر فيها “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، بالقرب من المشفى الوطني ومشفى الأطفال، تعد مؤشراً على قرب معركة وشيكة، على غرار المعركة ضد “داعش” عام 2017، وهو ما يفقد المدنيين الأمل في تغير قادم عبر المساعي السياسية. إضافة لنقل مقاتلين أجانب ينتمون لتنظيم “الشبيبة الثورية” أو ما يعرف كردياً بـ”جوانن شورشكر”، التابعة لحزب العمال الكردستاني، و”قوات تحرير عفرين” من مقاطعة “عفرين والشهباء”، وهي إحدى المقاطعات السبع من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية وفق قانون التقسيمات الإدارية الصادر نهاية نيسان/أبريل 2024.
وتساءل الهويدي عن سياسة التهميش والإقصاء التي تتبعها الدولة السورية بحق سكان شرق الفرات، وذلك لقبولها بنقل المقاتلين المتشددين التابعين لحزب العمال الكردستاني إلى شرق الفرات، وعدم وفاء “قسد” بتعهداتها، مع حملات اعتقال طالت الناشطين بسبب رفعهم علم الدولة السورية خلال مظاهرات التحرير في الرقة ودير الزور، وتهميش المكونات العربية وإقصائها من دوائر صنع القرار، كعشيرة “العفادلة”، كبرى العشائر العربية في الرقة، واتباع “قسد” سياسة التهجير القسري لمناطق عربية كاملة في أرياف حلب والحسكة.
اتفاق مؤجل حتى إشعار آخر
تشكلت اللجنة المركزية المشتركة بين الحكومة السورية و”قسد” على خلفية توقيع الاتفاق بين الشرع وعبدي، لضمان تسوية الخلافات شرق الفرات، وهي مكونة من لجنتين خماسيتين، إحداهما عن حكومة دمشق، والأخرى عن الكرد، كان اتفاق حلب أول منجزاتها. لاحقاً، تشكلت مع 4 لجان فرعية من الحكومة السورية و”قسد”، وبحسب الباحث في الشؤون السياسية سامر الأحمد فإن هذه اللجان هي الدفاع والجيش، والمؤسسات الخدمية والمدنية، ولجنة المعابر والاقتصاد والنفط، ولجنة القضاء والسجون والأمن.
ستكون مهمة تلك اللجان دمج إدارات شرق الفرات بالدولة السورية. لكن تطبيق اتفاق الشيخ مقصود والأشرفية يحتاج زمنياً عدة أسابيع، بما في ذلك تحقيق السلم الأهلي، وضبط الأمن، وتفعيل المؤسسات الخدمية والتعليمية، وتبييض السجون، وبالتالي لن يكون بمقدور اللجان الفرعية المشكلة شرق الفرات تحقيق أي تقدم مالم تطبق مخرجات الاتفاق الأول، وسط تخوف من عدم التزام “قوات سوريا الديموقراطية” بمضمون الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بملف المقاتلين، أو عدم قدرة الحكومة على حفظ الأمن وحدوث عمليات انتقام داخل الحيين كتلك التي جرت في الساحل مطلع آذار/مارس الماضي.
الاستقرار أولاً
وتسعى “قسد” لتحقيق الأمن والاستقرار في جميع المناطق السورية، بحسب الناشط الكردي عمر سينو، الذي اعتبر في حديث لـ”المدن” أن الإفراج عن الدفعة الأولى من السجناء ضمن 3 دفعات اتفقت عليها مع الحكومة السورية هي دليل حسن نية، لكنها بالمقابل تحتاج لضمانات جدية، خاصة فيما يتعلق بالمهجرين من عفرين واسترجاع ممتلكاتهم، ووقف الهجمات التركية على مناطق القوات الكردية. وأكد سينو أن عدم تهميش المكون الكردي في الدولة السورية الجديدة هي الضمانة الحقيقية التي تسعى وراءها، ومشاركة الكوادر الإدارية والعسكرية لقوات سوريا الديموقراطية في إدارة مؤسسات الدولة السورية، ليس فقط في شرق الفرات، لكون الإعلان الدستوري لم يميز بين السوريين على أساس القومية أو العرق.
يذكر أن “قوات سوريا الديموقراطية” أعلنت دمج المؤسسات العسكرية والأمنية التابعة لها مع المؤسسات الأمنية للإدارة الذاتية، تمهيداً للدخول في هيكلية الجيش السوري، وذلك مطلع شباط/فبراير من العام الجاري.
increase