واشنطن تطلق شرارة التفاوض بين أنقرة وتل أبيب: وساطة أذربيجانية وسط تصاعد التوترات في سوريا، والملف السوري يتحول إلى ميدان تنسيق عسكري تركي-إسرائيلي… وأنقرة توازن بين القلق الكردي والمخاوف من “ممر داوود” الاسرائيلي، في حين تتوسط أذربيجان في مفاوضات تقنية بطابع سياسي.
فقد أشعلت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساراً تفاوضياً جديداً بين إسرائيل وتركيا، في محاولة لصياغة آلية “منع تصادم” على الساحة السورية، حيث تتقاطع العمليات العسكرية للجانبين، بينما تلعب أذربيجان دور الوسيط في هذه المحادثات التي توصف بـ”الفنية”، لكنها تحمل في جوهرها بُعداً سياسياً عميقاً يرتبط بإعادة تموضع القوى الاقليمية في سوريا. وفي هذا السياق، كشف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في حديث لـ”CNN Turk” أن بلاده تجري “اتصالات فنية” لتفادي “سوء تفاهم” مع إسرائيل، نافياً أن تكون المفاوضات بمثابة تطبيع للعلاقات، ومؤكداً أنها تندرج ضمن “التنسيق التقني” الذي تعتمده أنقرة مع الأطراف كافة في الميدان.
تركيا وروسيا اللاعبان الوحيدان والغرب خارج المعادلة
تُظهر السياسة التركية في الملف السوري أنها تبحث عن تقاطعات ميدانية تُجنّبها الاصطدام، من دون أن تُلزم نفسها بإعادة التموضع الاستراتيجي أو الانحياز الى محور واضح، وتأتي المفاوضات مع إسرائيل في هذا السياق، كأداة لتجنب الانجرار إلى صدام إقليمي لا تريده تركيا حالياً. ومن جهة أخرى، تتواصل أنقرة عسكرياً مع دمشق في تعاون غير معلن ضد الإرهاب والمقاتلين الكرد، وتكشف مصادر من وزارة الدفاع السورية لموقع “لبنان الكبير” أن أنقرة تتفاوض أيضاً مع دمشق بشأن إقامة قاعدة تدريب عسكرية للجيش السوري، تتضمن إزالة الألغام ومخلفات الحرب، إضافة إلى تأهيل الكوادر السورية على أدوات محاربة الإرهاب وتقنياتها. على الرغم من العداء السياسي المعلن بين النظام السوري وأنقرة، إلا أن تركيا تتحرك ضمن ما يمكن وصفه بـ”سياسة التطبيع الميداني الصامت”، بحيث يبرّر التعاون العسكري أهدافاً أمنية تتعلق بمحاربة الإرهاب، لكنّه يفتح الباب لتفاهمات أوسع على الأرض.
وفي ظل ذلك، تبقى تركيا وروسيا اللاعبين الوحيدين، بينما الغرب خارج المعادلة؛ ويرى العقيد الركن الطيار عبد الله النميري أن تركيا باتت الطرف الأكثر تأثيراً ميدانياً في غياب حلفاء الغرب، موضحاً أن القيادة السورية الجديدة تميل إلى التوازن بين مختلف الأطراف، من دون الانخراط في تحالفات حادة، بحيث أتاح التردد الغربي في الانخراط العسكري بسوريا لتركيا مجالاً واسعاً لتأدية دور الموازن الاقليمي، سواء عبر التنسيق مع روسيا أو محاورة إسرائيل، وحتى الانفتاح الأمني على دمشق.
قاعدة T4 مركز الثقل التركي لمواجهة التهديدات
وفي قراءة مختلفة، يؤكد الدكتور ماهر التمران، القيادي في التحالف السوري الوطني، أن التحرك التركي يأتي بضوء أخضر من واشنطن، موضحاً أن أنقرة تسعى الى تطويق ما يُعرف بـ”مشروع ممر داوود” الاسرائيلي، الذي تعتبره تهديداً بعيد المدى لأمنها القومي، حتى وإن لم يكن واقعياً بالكامل. فأنقرة ترى أن تأخرها في الانخراط الجاد في الملف السوري منح خصومها مساحة تمدد، وها هي الآن تسابق الوقت لخلق وقائع على الأرض تمنع إسرائيل من الوصول إلى حدودها الجنوبية، خصوصاً في ظل التداخل بين المكون الكردي والمشروع الاسرائيلي كما تفهمه أنقرة.
وفي هذا الاطار، تصبّ المحادثات التركية مع دمشق في اتجاه تعزيز السيطرة المشتركة على قاعدة T4 الواقعة وسط سوريا، لما تمثله من أهمية استراتيجية لملاحقة تنظيم “داعش”، وضبط التحركات الكردية، وتطويق الطموحات الاسرائيلية المفترضة، بحيث تبني أنقرة درعها السورية على قاعدة ثلاثية: الكرد، “داعش” وتل أبيب. فالموقع الجغرافي الحاسم لقاعدة T4 يجعل منها نقطة ارتكاز عسكرية تتيح لأنقرة مراقبة المحاور الحيوية، وعبر هذه القاعدة، تمارس تركيا سياسة أمنية هجومية ووقائية في آن واحد.
وفي ظل غياب موقف غربي حازم، تتقدم تركيا كلاعب مستقل في الملف السوري، تنسّق مع الجميع، من دمشق إلى تل أبيب، وتحت مظلة أميركية ضمنية، لكنها في الوقت ذاته، تدير معاركها وفق معادلة أمن قومي صارمة لا تقبل المجازفة، وفي قلبها الهاجس الكردي والخطر الاسرائيلي الطويل الأمد.