في لحظة مفصلية داخلياً واقليمياً يسعى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى مبادرة حوارية تجاه “حزب الله”، واضعاً مسألة حصرية السلاح بيد الدولة على جدول أعماله. ووفق ما يُنقل عن أجواء بعبدا، فإن عون يقوم بخطواته بتنسيق وثيق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويسعى إلى أن تكون هذه المبادرة مختلفة عن تجارب “طاولة الحوار الوطني” السابقة، بحيث تتخذ طابعاً ثنائياً في مرحلتها الأولى، على أمل التوسّع لاحقاً إذا تحقق خرق ما. والغاية تبدو واضحة: تبديد مخاوف الحزب من مستقبل سياسي غامض، واسترضاء المجتمع الدولي – وعلى رأسه أميركا – الساعي إلى خفض مستوى التسلّح خارج إطار الدولة.
لكن التجربة اللبنانية تُظهر بوضوح أن الحوارات الداخلية حول سلاح الحزب لم تكن سوى محطات لتمرير الوقت، وأن هذا السلاح بات منذ زمن ملفاً إقليمياً بامتياز. وعليه، فإن ما لم يُنجز في بيروت، قد يُطرح في مسقط، حيث تتحرك قنوات التفاوض السرّي بين واشنطن وطهران. هناك، لا يتحدّث اللبنانيون، بل تُقرَّر مصائرهم.
فشل الحوارات الداخلية
منذ ما بعد حرب تموز 2006، لم تغب قضية سلاح “حزب الله” عن المشهد السياسي اللبناني، لكنها بقيت عصيّة على أي مقاربة وطنية ناجعة. وقد جرت محاولات عدة لتضمينها ضمن “الاستراتيجية الدفاعية”، كما في حوار الرئيس ميشال سليمان عام 2010، لكن النتيجة كانت تثبيت معادلة “جيش، شعب، مقاومة”.
في الواقع، اصطدم أي نقاش حول سلاح الحزب بجدارين:
الجدار الأيديولوجي: رفض الحزب نزع سلاحه بحجة أنه سلاح “المقاومة”، واعتبره جزءاً من معركة وجودية ضد إسرائيل.
الجدار السياسي: المتمثل في الانقسام العمودي بين قوى 8 و14 آذار، بحيث تحوّل السلاح إلى أداة توازن داخلي تُستخدم في تقاسم النفوذ، كما حصل في اتفاق الدوحة عام 2008، والذي منح الحزب “الثلث المعطل”.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ودخول الحزب العسكري إلى الساحة السورية، اعتبر خصومه أن السلاح لم يعد أداة دفاع عن لبنان، بل صار جزءاً من منظومة إقليمية عابرة للحدود. ومع كل تدخل جديد في سوريا أو العراق أو اليمن، بدا أن الحزب يزداد التصاقاً بأجندة طهران، ويبتعد أكثر فأكثر عن الاندماج في الدولة اللبنانية.
2025: الضغوط الدولية تدفع بالحوار إلى الحائط
بعد التصعيد الأخير مع إسرائيل خلال عامي 2023 و2024، عاد ملف سلاح الحزب إلى الواجهة الدولية، لا سيما في ظل ضغوط أميركية مكثفة على لبنان لتطبيق القرار 1701 وتوسيع سيطرة الجيش شمال نهر الليطاني. هنا، جاء اقتراح الرئيس عون للحوار كنوع من المناورة المنظّمة: حوار ثنائي لا يستفز الحزب، ولا يحرج الرئاسة، لكنه يُرضي واشنطن.
غير أن “حزب الله” ربط أي نقاش فعلي بالتزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار، ولا سيما لجهة انسحابها من النقاط الخمس التي لا تزال تحتلها، وتوقف اعتداءاتها على لبنان.
سلاح الحزب على طاولة مسقط
في السنوات الأخيرة، برزت مسقط كوسيط فعّال بين إيران والغرب، وكانت محطة رئيسية في مفاوضات نووية سابقة. واليوم، مع دخول أميركا في عهدة إدارة جديدة بقيادة دونالد ترامب، وبدء مفاوضات مفاجئة مع طهران السبت المقبل، يُرجَّح أن يُدرَج ملف “حزب الله” ضمن صفقة أوسع. فالولايات المتحدة وإسرائيل تعتبران أن تحجيم نفوذ إيران يبدأ من لبنان، عبر تقليص سلاح الحزب. أما إيران، الضعيفة اقتصادياً، فباتت بأمسّ الحاجة إلى رفع العقوبات، ما يجعلها أكثر استعداداً لتقديم تنازلات.
وفي هذا الاطار، أعاد الوسيط العُماني تفعيل قنوات التواصل غير المباشر، ما يجعل من مسقط منصة محتملة لإبرام تفاهم كبير.
في هذا السياق، يعود طرح قديم – جديد الى الواجهة: سلاح الحزب لم يعد شأناً لبنانياً فحسب، بل بات “ورقة” في يد طهران يمكن التضحية بها جزئياً مقابل مكاسب استراتيجية. وربما نشهد، لأول مرة، مقايضة من نوع تفكيك تدريجي للسلاح مقابل وقف التصعيد وتجنّب حرب إقليمية شاملة.
إيران بين الضغط والمرونة
اقتصاد إيران على شفير الانهيار، والريال الايراني يسجل مستويات تاريخية من التدهور. وفي المقابل، تشهد طهران تراجعاً واضحاً في نفوذها الاقليمي، من سوريا إلى اليمن والعراق، حيث تواجه تحديات حادة في إدارة ساحاتها التقليدية.
وتوحي التصريحات اللافتة للرئيس الايراني مسعود بزشكيان، بـ”انفتاح غير مباشر” على واشنطن، وتكشف عن رغبة ضمنية في فك العزلة، حتى ولو على حساب أوراق كانت تُعدّ حتى وقت قريب “مقدسة”.
لبنان ضحية صفقة الكبار
في نهاية المطاف، يتكرّس من جديد منطق اللعبة الاقليمية: الكبار يتفاوضون، والصغار يدفعون الثمن. الحوارات الداخلية حول سلاح “حزب الله”، وإن بدت محاولات جدّية في ظاهرها، لا تعبّر سوى عن حالة عجز بنيوية في النظام اللبناني. أما القرار الحقيقي، فيُتخذ خارج الحدود، ويُنفّذ بأدوات لبنانية.
وقد يُضطر الحزب، في لحظة ما، إلى تسليم جزء من سلاحه أو إعادة تموضعه، ليس استجابة لضغط داخلي، بل لحاجة إيرانية ملحّة إلى إعادة التموضع. وهكذا، يُختزل لبنان مرة أخرى إلى ورقة على طاولة تفاوض خارجية، في مسقط أو غيرها، حيث لا يجلس اللبنانيون، بل تُقرَّر عنهم مصائرهم.
إشترك بالقائمة البريدية
البريد الإلكتروني
إشترك الأن