تحل هذه الأيام الذكرى الـ 50 لبداية الحرب الأهلية اللبنانية التي إنطلقت في 13 نيسان عام 1975، والتي لا تزال تداعياتها وإرتداداتها مستمرة للأسف بطريقة أو أخرى، بمعنى أن الدولة لم تستعد عافيتها بعد على الرغم من بعض التعافي ما بين العامين 1991 و2005، التي شهدت – بوصاية سورية – نوعاً من إعادة “تركيب” سلطة أكثر منها إعادة بناء دولة، الأمر الذي أدى بعد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى فرط عقد هذه السلطة القائمة لتتحول إلى “سُلطات” متعددة ومتنازعة بتعدد الطوائف والأحزاب، ما لبثت أن إنهارت تحت سطوة “السلطة الأقوى” المتمثلة بـ “حزب الله” في السابع من أيار 2008، الذي تحكَّم بالسلطة ومارسها بطريقة غير مباشرة حتى الأمس القريب، بينما لا تزال الأكثرية الصامتة من اللبنانيين تتوق الى العبور إلى الدولة مجدداً منذ أكثر من نصف قرن ولا تستطيع إليها سبيلا.
اليوم وفي ذكرى إندلاع الحرب ونحن في بداية ما يؤمل أن يكون عهداً جديداً للبنان بعد إعادة تشكيل السلطة التي كانت تُدار بالوكالة، لا يفيد البكاء على الأطلال أو تحميل المسؤولية من كل طرف للطرف الآخر، عبر نبش الماضي الذي بات تاريخاً ينبغي قراءته للإفادة من دروسه وعِبره وما أكثرها، وليس بهدف إتخاذ موقف ضد طرف دون آخر وتأجيج المشاعر أو توهُّم إنتصار كما يحاول البعض اليوم من أطراف تلك الحرب، بحيث يرفع هذا البعض لافتات تدَّعي المقاومة وتُمجِّد الإنتصار وهو هنا على اللبناني الآخر في شتى الأحوال، وإدعاء أنه لولا هذه المقاومة لم يبقَ لبنان، ناسياً أو متناسياً أن لبنان كان قبله وسيبقى بعده، في الوقت الذي ينكر هذا البعض الحق – حق المقاومة – على البعض الآخر من أبناء بلده و”يناضل” في سبيل نزع هذا الحق منه، هذا الآخر الذي يدَّعي أيضاً الانتصار والحفاظ على لبنان، وكأننا أمام لبنانين وهو ما كان عشية الحرب الأهلية، وهو سلوك وممارسة يصدران عن جانبين متقابلين – للحقيقة والأمانة – في تناقض غريب لا يستوي والحس الوطني السليم – من الجانبين – بل يُعمِّق من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد، عندما ندَّعي الانتصار في الوقت الذي بات فيه لبنان وشعبه في حال يرثى لها بين الدول والشعوب .
إن أكثر ما يحز في النفس ونحن نعيش هذه الذكرى، هو أننا على ما يبدو لم نتعلم بعد، أو لنقل إن المعنيين ما زال كل منهم على مواقفه على الرغم من مرور كأس السم مداورة على الجميع وبالتساوي، فخسر كل طرف خيرة رجاله وشبابه والخسارة الكبرى كانت من نصيب البلد، ومع ذلك لم نرَ طيلة السنوات الـ 35 الأخيرة أي محاولة مراجعة للنفس أو تقييم للتجربة أو الندم عليها، إلا من نفرٍ قليل من السياسيين أبرزهم الراحل محسن إبراهيم الأمين العام السابق لمنظمة “العمل الشيوعي” وتوأمه الشهيد جورج حاوي الأمين العام السابق للحزب “الشيوعي اللبناني”، اللذان مارسا نقداً ذاتياً قولاً وفعلاً عبر الانفتاح على الآخر مع بداية التسعينيات – وإن كانت محاولات يرى البعض أنها لم تكن كافية ربما لأنها لم تلقَ صدىً نتيجة ظروف الوصاية – وبعض تصريحات أشبه بالمراجعة من الرئيس السابق للحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، يُبدي فيها رفضه لعودة الحرب مجدداً وبات يرى فيها شراً مطلقاً، خصوصاً بعد إتمام المصالحة التاريخية في الجبل مع البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير.
وهنا، لا بد من الاشارة والإشادة بموقف منظمة التحرير الفلسطينية التي قدمت إعتذارها الى الشعب اللبناني عبر “إعلان فلسطين في لبنان” بداية عام 2008، الذي أعلنت فيه إلتزامها الكامل سيادة لبنان وإستقلاله من دون أي تدخل في شؤونه الداخلية، وأن “السلاح الفلسطيني يجب أن يخضع لسيادة الدولة اللبنانية وقوانينها”، هذا الاعلان الذي لم نرَ بالمقابل – ونقولها بصراحة ومحبة – رداً عليه من الجانب المسيحي وهو المعني الأول بالموضوع، لجهة أي مراجعة ونقد أقله للممارسات التي حصلت إبان الحرب إن لم يكن على مستوى الهدف إلا في نطاق ضيق لا يفي بالغرض، بل نرى أن البعض يتجاهله وكأنه لم يكن وذلك تحت ضغط الخلافات الحزبية المسيحية للأسف والتي دفع ثمنها ما يسمونه “المجتمع المسيحي” قبل غيره غالياً سابقاً ولاحقاً.
اليوم وفي الذكرى الـ 50 للحرب نرى البعض وتبعاً للتطورات الأخيرة في لبنان والمنطقة يتحدث بلغة هي أقرب إلى الشعور بالغلبة، على طريقة “مقاومتي أقوى من مقاومتك”، وهي لغة لا تنفع ولا تجدي وتثبت أن هذا البعض لم يتعلم من التجارب السابقة بكل مآسيها، ما يدعو إلى القول ما أكثر عِبر تلك الحرب وما أقل المعتبرين.