“تنذكر ما تنعاد”، جملة يرددها اللبنانيون مع حلول ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية التي يصادف تاريخها في 13 نيسان/ أبريل من كل عام، تعبيرًا عن تمنياتهم بأن الاكتفاء بذكر هذه الحرب أمر مقبول، وأن تكرارها أمر مرفوض. هذا العام، تحل الذكرى الخمسون لاندلاع تلك الحرب، وقد أضاف اللبنانيون إلى الجملة المعهودة “تنذكر ما تنعاد” تساؤلًا عمّا إذا كانت الحرب قد انتهت في الواقع أم لا؟ “ليش هي خلصت حتى تنعاد؟”. فتاريخ 13 نيسان/ أبريل يحتل رقمًا صارخًا وثابتًا في روزنامتهم، إذ يشير إلى بداية الحرب، بينما لا نعثر على تأريخ محدد لنهايتها، سوى أن تسعينيات القرن العشرين بطولها وعرضها هي هذه النهاية.
نعم، يعرف اللبنانيون جيدًا أن الحرب التي اندلعت في 13 نيسان/ أبريل من عام 1975، لم تنتهِ، وقد شهد معظمهم الحروب المتفرقة التي كانت تندلع بعد كل انهيار لوقف إطلاق النار، الذي لم يكن يصمد طويلًا، لتعود الحرب بشكل أو بآخر، بالسلاح الحربي، أو عبر أزمات بالغة التعقيد، داخلية وخارجية، عكست تأثيراتها عبر انهيارات اقتصادية ومالية، وانقسام ديموغرافي حاد، وهجرات، وبطالة، طاولت عيش اللبنانيين في الصميم ولا تزال حتى يومنا هذا. وإذا أردنا أن نقيس حصة كل فرد من الحرب بالتوازي مع كل حدث، نجد أنها طاولت مختلف الفئات العمرية، ابتداءً من جيل مواليد الستينيات الذي عايش بداياتها، إلى جيل الثمانينيات والتسعينيات، وحتى مواليد الـ2000 لهم حصة، كان آخرها الصيف الفائت. ويبيّن لنا العرض أن الحرب موضوعٌ تساوى أمامه اللبنانيون بإرادتهم أو من دون قصد.
وإذا كانت الخمسون سنة تحتسب في عالم الإنجازات والأعمال الناجحة يوبيلًا ذهبيًا، فإن ما وضعته إحدى محطات التلفزة على زاوية شاشتها “يوبيل الموت” أبلغ تعبير عمّا عاشه اللبنانيون من أشكال الموت خلال تلك الحروب التي امتدت لنصف قرن. وها هي بيروت في هذه الذكرى تفيض بالمعارض والصور والأفلام الوثائقية والمقابلات التي حفلت بالمواقف المختلفة، ومن بينها السؤال الأكثر حضورًا: هل انتهت الحرب أصلًا؟
“خمسون عامًا… حادثة واحدة، حروب كثيرة”
لمناسبة مرور خمسين عامًا على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، نظم مركز “أمم للأبحاث والتوثيق” ـ حارة حريك، “الهنغار”، معرض صور حمل عنوان: “خمسون عامًا… حادثة واحدة، حروب كثيرة”. يحمل المعرض، والأعمال المقامة على هامشه، إجابة عن سؤال: إذا ما كانت الحرب انتهت أم لا؟ فباستطاعة الزائر أن يرصد بسهولة محطات الحرب اللبنانية عبر الصحف المعلقة على الجدران، والتي رُوعي في تنظيمها التسلسل الزمني، ابتداءً من حادثة بوسطة عين الرمانة، مرورًا بأحداث كثيرة لا نجد من بينها ما يشير إلى نهاية الحرب. هذا ما نجد له توضيحًا في كلمة للراحل لقمان سليم، مؤسس “أمم”، يتلازم مع سؤال: “كيف يمكن أرشفة ما لم ينتهِ بعد؟”. ثمة أسئلة أخرى تعكس أيضًا الكثير من الإشكاليات حول الأمر المذكور، من بينها سؤال: “كيف نحرّر ذاكرة الحرب من التوثيق الجامد والنُصُب الثابتة، ومنحها روحًا فنية تنبش ما خفي في زوايا النسيان والكتمان…”. ولا تُطرح هذه الأسئلة كتأريخ للحرب بقدر ما تُطرح قراءةً لها، وعودتها وتكرارها بصيغ جديدة، ثم تحوّلها إلى بنية للعيش اليومي، للسياسة، والخيال.
إن عدم إعلان نهاية لهذه الحرب المستمرة بأشكال مختلفة منذ اندلاعها، من المسائل الأكثر تداولًا بين اللبنانيين، والتي يعكسها المعرض المقام في “أمم” من خلال كلمة لسليم، يرد فيها: “إن كان أضعف الإيمان الاعتراف بأن لبنان لم يتعافَ بعد من آثار تلك السنوات، فإن أضعف الإيمان أيضًا هو الإقرار بأن تلك الحرب، أو بالأحرى تلك الحروب، لا تزال تهديدًا حاضرًا”.
في المعرض شهادات لمواطنين لبنانيين عاشوا مراحل مختلفة من الحرب، لكل روايته وقصته عنها، صحافيون وفنانون وشعراء وكتّاب من بينهم: فوزية شحرور، جلال توفيق، إيتيل عدنان، حسن داوود، شذى شرف الدين، سمير فرنجية، أكرم زعتري، صالح بركات، رشا سلطي، أسماء أندراوس وغيرهم…
بموازاة المعرض أيضًا، تحتفل “أمم” بمرور عشرين عامًا على تأسيس موقع “ديوان – الذاكرة اللبنانية”، وهذه المرة بنسخته الإلكترونية المطوّرة.
من معرض “50 لا تنذكر ولا تنعاد”
“50 لا تنذكر ولا تنعاد”
للمناسبة نفسها، أقام صالح الرفاعي في جامعة بيروت العربية، معرض صور تحت عنوان “50 لا تنذكر ولا تنعاد”، وهو عبارة عن مجموعة واسعة ومتنوعة من الصور بالأبيض والأسود لمناطق مختلفة من بيروت، تغطي الحقبة الزمنية من عام 1995 وحتى 1990.
تروي صور المعرض قصة بيروت مع الحرب وتكشف عن أبشع وجوهها. أحياء وطرقات فارغة إلا من الركام الذي يسد معظمها، أسواق هجَرها زوارها تحت سطوة القناص، صور خُطّ عليها عبارات: “خطوط التماس شرقية وغربية، سالكة وآمنة، الطريق مسكّرة، علقت، انزلوا ع الملاجئ، معابر…”، العشب نبت وحيدًا وعاليًا وسط البنايات، رجل بلباس النوم يقف متمسكًا بواجهة حديد صدئة تكسر زجاجها، تمثال الحرية وحيدًا وسط أشباح البنايات المعتمة الخالية من الحياة، قوات حفظ السلام تضم مقاتلين من فرنسا وإيطاليا، طفل يقف وسط مستنقع ينظر إلى صورته المنعكسة في المياه الموحلة، صورة: “انتبه!… خطر الموت، لا تنزل من جهة المالية”.
يخلو عنوان معرض الرفاعي “لا تنذكر ولا تنعاد” من كلمة “حرب”، كما يخلو أيضًا من صور المقاتلين والجثث والمجازر، وهي في غالبيتها تتركز على الدمار، الذي يبقى أقل قسوة من صور القتل. وتدليلًا على عجز الكلمات في التعبير عمّا خلّفته الحرب من مآسٍ، وأن الصورة هي أبلغ رسالة عنها، استعان الرفاعي في كلمته التي ألقاها بمناسبة افتتاح المعرض بقول للباحث والمصور الفوتوغرافي الأميركي لويس هاين، يقول فيه: “لو استطعت أن أعبّر بالكلمات عمّا أريد، لما حملت الكاميرا”.
“يبدو “بيت بيروت” من خلال ما كانه قبل الحرب وما صار إليه بعدها، مكانًا للذاكرة، متصلًا بكل ماضي الحرب ومنسلخًا في الوقت نفسه عنها، إذ تطل شرفاته على حداثة مدينة كانت الحرب قد دمّرتها، وها هو البيت اليوم أصبح مكانًا لذاكرتها”
“احكيلي”
للمناسبة نفسها، أُقيم في “بيت بيروت” معرض “احكيلي”، يتضمن شهادات وآراء وقصصًا لعدد من الروائيين والصحافيين والفنانين اللبنانيين، يُستخدم في بثّها فيديوهات وتجهيزات بصرية ومؤثرات صوتية، توزعت على غرف البيت، كل غرفة منه تحكي قصة مختلفة وتقدّم مجموع القصص الموزعة على الغرف ذاكرة جماعية للبنانيين حول الحرب وعنها.
يُقام على هامش المعرض عدد من النشاطات، من بينها جولة على خطوط التماس وتنظيم مسابقة رالي، إضافة إلى عروض فنية وأدبية متنوعة.
وضمن فعالية ذكرى الحرب، أقامت لجنة أهالي المخطوفين ندوة في “بيت بيروت”، حُدّدت فيها الخطوات والنشاطات المنوي تفعيلها في المستقبل.
يشكل “بيت بيروت” وفق منطق الحرب حدًا فاصلًا بين الشرقية والغربية، وهو اليوم يحمل عبء الحرب التي لا تزال مطبوعة على زواياه وشرفاته وجدرانه المهشّمة، بل إن كل ما فيه يشير إلى أن الحرب كانت هنا، لا سيما الكلمة التي خطّها القناص بخط أسود عريض: “القناص”.
يعبق البيت بذاكرة سكّانه، إذ لا يزال بعض من أغراضهم وصورهم موجودًا فيه: طاولات، قناني بيبسي كولا، صوانٍ، أدوات مطبخية، ألوان ورسوم تكشف أن فنانًا عاش في إحدى الشقق، عيادة لطبيب أسنان لا تزال الكرسي التي كان يعالج عليها مرضاه موجودة مع تعرفة عن الأسعار: “10 ليرات ليلًا ونهارًا”. رسائل تهنئة في مناسبات مختلفة، من بينها بمناسبة حلول رأس السنة في عام 1970. ورقة نعي الطبيب التي نتعرف من خلالها على اسمه “يوسف الشمالي”، كما نعرف أن زوجته من الجنسية الروسية، المريول المعلّق على الجدار محت الحرب لونه الأبيض.
يبدو “بيت بيروت” من خلال ما كانه قبل الحرب وما صار إليه بعدها، مكانًا للذاكرة، متصلًا بكل ماضي الحرب ومنسلخًا في الوقت نفسه عنها، إذ تطل شرفاته على حداثة مدينة كانت الحرب قد دمّرتها، وها هو البيت اليوم أصبح مكانًا لذاكرتها.
تأملات في ماضي الصور
أعود بالذاكرة مع المعارض آنفة الذكر خمسين عامًا إلى الوراء، آنذاك كانت الحرب طازجة، والأخبار التي تنقلها الصحف طازجة أيضًا، وصور القتلى والدمار طازجة. كنا نتحلق حول الصحيفة، نقرأ أسماء الجرحى والقتلى، نتساءل عن اسم المرأة التي تصرخ في إحدى الصور، ونتخيل طريقة رثائها لفقيدها، نخترع تصورات لحزنها، نعيش الحدث كجزء منا، في حرب كانت قريبة جدًا منا. اليوم، وبعد خمسين عامًا، أضحى الحدث الذي عشناه في الحرب صورةً في معرض، أراني لا أمعن كثيرًا فيها، إلا أن ما يشدّني إليها هو زمنها الذي كنا فيه أطفالًا لم نكن نعلم أن حربًا قذرة وطويلة ستأخذ ما تبقى من عمرنا القادم. وإذا كان اللبنانيون يحيون اليوم الذكرى الخمسين للحرب في ظل انقسامات حادة لا يقل عمرها عن عمر الحرب نفسها، فإنهم بذلك يؤكدون أن الحرب ليست إلا نحن.
شارك هذا المقال