تحاكي سلسلة هذه المقالات المخصصة لموقع “ضفة ثالثة” سيرة حياة وإبداع وأثر الشخصيات التي استشهدت تحت وطأة حرب الإبادة في قطاع غزة من الفاعلين في حقول الأدب والفن والتراث وأعضاء وموظفي المراكز الثقافية. نحكي عن خسارة رحيلهم وفقدان أعمدة ومكونات المشهد الثقافي والإبداعي في غزة، منهم من كان قد بدأ رحلة إبداعه للتو ومنهم من له تاريخ من الإنجاز والتأثير.
بداية المشوار
كان البدء بهذا البحث والتوثيق أشبه بقصيدة رثاء طويلة لا نهاية لها، مليئة بالبحور الشعرية صعبة التقطيع والتوصيل، وأشبه بعجز قصيدة بلا بيت، فلا سقف ولا قافية بل هناك فقط خيمة لا تحمي حتى من المطر. كانت تجربة التوثيق قاسية، يَسكنك الوجع وأنت تخط بقلمك أسماء الشهداء والشهيدات وحكاياتهم وأحلامهم، وأن تكتب مثلًا أنهم ما زالوا تحت الركام، أو عن شهداء أصغر عمرًا ومسيرة من أن تستطيع الكتابة عن فقدانهم، أو عن أخ واحد من توأمين استشهد، أو توأمين استشهدتا فآثرت كتابة اسميهما معًا ومنحهما رقمين، والقسوة في اختيار الصور ومنها صور تخلد هذا الرحيل وأثره، وهناك من اختار مشهد وداعه بصورة أو بكلمة أو بحكمة تناقلتها المواقع الإعلامية المحلية والعالمية.
هنا أوثق سيرة وصورة أكثر من 104 شهداء من القطاع الثقافي بالاعتماد على أكثر من 40 مرجعًا ما بين مواقع إعلامية وتوثيقية ومقابلات شخصية، وما أن انتهيت من هذا العبء الكبير، حتى بكيت فعلًا على حجم الخسارة والرحيل.
وجدت أن أبدأ برحيل ثلاثة ممن لم يقتلوا برصاص القناص، والقصف الاسرائيلي، بل قتلتهم قسوة الحياة تحت الإبادة من حزن وجوع وظلم وبرد، قتلتهم مشاهد الخيام والنازحين والأشلاء وأصوات الذين كان من الممكن إنقاذهم تحت الركام ولكن جبهة العدو المفتوحة حالت دون ذلك فاستشهدوا وبقي صدى أصواتهم بيننا، أعمدة في الفن والمسرح رحلوا بصمت لكن خلّدتهم أعمالهم.
تم تحديد ثلاثة من الشهداء الذين بدت وفاتهم طبيعية، ولكن ظروف الحياة تحت الإبادة وعدم التمكن من الحصول على العلاج المناسب والضغوط النفسية لبعض من لديهم أمراض مزمنة، أدى إلى وفاتهم في ظروف استثنائية، هم شهداء القسوة والعذاب الذي عاشوه، وهم:
1- الفنان التشكيلي فتحي غبن الذي تحدث شهود عيان عن صعوبة وقسوة ظروف حياته اليومية، وعدم تمكنه من السفر لتلقي العلاج بسبب إغلاق معبر رفح الحدودي مع جمهورية مصر، حيث كان يعاني من أمراض صدرية وصعوبة في التنفس، مما شكّل السبب الرئيس لوفاته واستشهاده.
2- الفنان والمسرحي والمخرج مفيد سويدان الذي عانى من ضغوط نفسية وعصبية بحسب شهادة موثقة لهذه الدراسة من صديقه المخرج نعيم نصر الذي شاركه الإقامة القسرية والنزوح في خيمة واحدة خلال الحرب ولفترة طويلة. وأفاد في شهادته أيضًا أن سبب الوفاة وبحسب الطب الشرعي هو سكتة قلبية أصابته حين ذهب في زيارة تفقدية لمنزله حيث نام فيه ليلته الأخيرة، ولم يستيقظ بعدها.
3- المخرج والمسرحي خليل طافش الذي عاش مُقعدًا خلال الإبادة، وذلك بحسب شهادة موثقة لهذه الدراسة من قبل ابنه الفنان صلاح والذي تحدث عن صعوبة تنقل والده عدة مرات نازحًا، وأنه تعرض في الأسبوع الأخير قبل وفاته إلى صدمة أفقدته الشهية للطعام وللكلام إضافة إلى عدم قدرته على النوم إلى حين استشهاده.
من أعمال فتحي غبن
الفنان فتحي غبن
توفي في 25 شباط/ فبراير 2024 بعد صراع طويل مع المرض. وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مقولة له “بدي أتنفس”، حيث لم تسمح قوات الاحتلال له بمغادرة القطاع لتلقي العلاج في مشافي الخارج، فقد عانى من مشاكل حادة في الصدر والرئتين، وأمضى أيامه الأخيرة في مشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، في انتظار السفر للخارج لاستكمال علاجه بسبب نقص الأدوية والأوكسجين في غزة، إلا أن سلطات الاحتلال لم تسمح له بمغادرة القطاع.
ولد فتحي غبن في قرية هربيا داخل أراضي الـ1948 في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1946، واعتبر من رواد الفن التشكيلي الفلسطيني بعد النكبة، حيث عاش حياة المخيم بكل تفاصيلها ورسمها بدقة متناهية وخلّد حياة القرية الفلسطينية التي أرادت النكبة أن تمحوها، مستذكرًا قريته “هِربيا” التي ولد فيها، فرسم الحقل والبيدر والعرس والحصاد والميلاد ورسم البيوت والوجوه والطرقات، وكانت فلسطين دائمًا حاضرة بكل تفاصيلها في أعمال غبن الذي حمل معه حياة القرية الفلسطينية والمخيم واللجوء إلى العالم عبر ريشته البارعة، وشارك في عشرات المعارض محليًا وحول العالم، واحترف النحت بالطين.
اعتقل أكثر من مرة بسبب رسوماته، خصوصًا لوحة “الهوية” التي رسمها عام 1984، وتنبأ فيها باندلاع الانتفاضة، عبر مشهد يصوّر المقلاع ورمي الحجارة، وتم منعه من السفر والاستيلاء على أعماله، وملاحقة مقتنيها.
الفنان مفيد محمد عبد الله سويدان
توفي عن عمر 48 عامًا في آب/ أغسطس 2024 بسكتة قلبية أثناء تفقده لمنزله في المصرارة حيث قضى ليلته الأخيرة ثم رحل، هذا ما أخبرنا به زميله المخرج نعيم نصر والذي أكد أنه كان تحت تأثير ضغط كبير في أيامه الأخيرة تحت الإبادة وحياة النزوح. هو من قرية الجية قضاء قطاع غزة، المهجرة عام 1948، عاش في خان يونس ثم هاجر إلى بلجيكا وهناك استكمل دراسته وعمل مع المخرج فيليب دوملا في مسرحيات عرضت في فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ، لكنه عاد إلى جوار والديه في القطاع، وهو أب لثلاثة أبناء.
“تم تحديد ثلاثة من الشهداء الذين بدت وفاتهم طبيعية، ولكن ظروف الحياة تحت الإبادة وعدم التمكن من الحصول على العلاج المناسب والضغوط النفسية لبعض من لديهم أمراض مزمنة، أدى إلى وفاتهم في ظروف استثنائية”
هو فنان مسرحي ومخرج معروف له بصمته في المسرح الفلسطيني، وخاصة مسرح المضطهدين والمسرح المدرسي، حيث أخرج العديد من مسرحيات الأطفال، وشارك ممثلًا في مسرحية “ليلة عمر” للمخرج نعيم نصر وتتناول موضوع إجبار الفتيات على الزواج بناء على رغبة الأهل، وشارك بدور أول في مسرحية “قصص وبقايا وطن” من تأليف وإخراج نعيم نصر، ومسرحيات أخرى مثل “عندما تمطر الشمس” و”أما بعد” و”عسل الأفاعي” وهي من إخراج الفنان نعيم نصر ومن إنتاج جمعية فكرة للفنون التربوية، وتحاكي المسرحية قضية قتل النساء على خلفية الشرف من خلال مسرح المضطهدين التفاعلي. كما شارك في المسلسل التلفزيوني “أبو الدكتورة لينا”، وكان آخر أعماله ممثلًا في مسرحية “حياة” عام 2023.
الفنان والمخرج المسرحي خليل طافش
توفي في 25 نيسان/ أبريل 2024 عن عمر 81 عامًا، تحت وطأة حرب الإبادة. حدثنا ابنه صلاح كيف عاش والده مقعدًا في ظل صعوبة التنقل والنزوح من مكان إلى آخر وتحت ضغط وقلق شديدين. وقال: “عاش آخر أيامه في حالة صدمة فاقدًا القدرة على الكلام وفاقدًا الشهية، إلى أن توفي”. هو من مواليد قرية عاقر 1943 وعاش في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة. نعته الأمانة العامة والمجلس الإداري للاتحاد العام للفنانين التعبيريين الفلسطينيين ووصفته بأنه “الفنان الوطني الفلسطيني الكبير، شيخ المسرحيين الفلسطينيين، المخرج المسرحي وأحد مؤسسي المسرح الفلسطيني المعاصر”. ساهم في الحركة المسرحية الوطنية والعربية وفي تأسيس وتطوير المسرح المُوريتاني إلى أن عاد إلى أرض الوطن مديرًا لدائرة التنشيط المسرحي بوزارة الثقافة في غزة، حيث أنجز مسرحيتي “العنب الحامض” و”الجسر”.
درس المسرح في المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة عام 1969، وكانت بدايته مع فرقة حركة فتح المسرحية منذ عام 1969 وطورها لتصبح فرقة “المسرح الوطني الفلسطيني” والتي روجت لأفكار منظمة التحرير الفلسطينية والثورة، وكانت تمجد الشهادة والصمود. ومن انتاجاته مسرحية “محاكمة الرجل الذي لم يحارب” لممدوح عدوان من إخراج حسن عويتي والتي شاركت في مهرجان دمشق المسرحي الرابع عام 1972 ومهرجان الجامعة الأول للفنون المسرحية وعُرضت في تونس والجزائر، ومسرحية “العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع” تحت عنوان “الكرسي” لمعين بسيسو من إخراج الراحل خليل طافش، والتي اعتبرت بداية جديدة للإبداع والانطلاق نحو العالم، حيث مثلت فلسطين في مهرجان المسرح العربي في الرباط بالمغرب عام 1974، ووصفتها صحيفة “لوموند” الفرنسية بأنها من أهم المسرحيات التي عالجت قضية فلسطين. واستقطبت الفرقة العديد من الفنانين العرب.
وأثناء مهرجان المسرح العربي في الرباط عام 1974 كان أول من دعا إلى تشكيل فرقة قومية عربية تضم فنانين من أنحاء الوطن العربي، وهو ما حدث حين أسس الفرقة الفنان المغربي الطيب الصديقي بأوائل الثمانينيات.
يعتبر مؤسس المسرح الجامعي بدمشق سنة 1972 حيث قدّم مسرحية “مهاجر بريسبان” للكاتب جورج شحادة، وقدم العديد من المواهب التي أصبحت فيما بعد من نجوم الفن الدرامي، أمثال داوود جلاجل ورشيد عساف وفيلدا سمور وغيرهم.
يعتبر مؤسس المسرح الموريتاني الذي استفاد من خبرته في الفترة ما بين 1977 وحتى التحاقه بالسلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994. ومن أعماله مسرحية “العنب الحامض” للكاتب البرازيلي غوليرميه فيجويريدو.
(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية ومختصة في السياسات الثقافية، لاجئة من قرية عنابة المدمرة عام 1948 ومقيمة في رام الله، لديها عدة إصدارات والعديد من النصوص الأدبية والأبحاث والأوراق الثقافية والسياسية والحقوقية.