مساء الأربعاء الفائت شاع خبر القبض على تيسير عثمان، أو تيسير محفوض برواية أخرى، وهو حسب ما صار متداولاً كان رئيس قسم الدراسات في سرية المداهمة التابعة لفرع المخابرات 215. اعتقال تيسير نال اهتماماً واسعاً على السوشيال ميديا والصحف، رغم أنه إلى ما قبل القبض عليه لم يكن شخصية معروفة من قبل السوريين، ولا يُعدّ بين كبار مجرمي عهد الأسد المطلوب القبض عليهم ومحاكمتهم.
أولاً، انتشرت صورة تيسير مقبوضاً عليه، وهناك يدان لشخصين لا تعريف بهما، تمسك كل يد بجزء من شعر رأسه على سبيل الإيلام والتنكيل، بينما يظهر وجهه مع كدمات قليلة وخفيفة نسبياً على خده الأيسر وجبينه من الجهة نفسها. ثم في الليلة ذاتها راج تسجيلان يظهر فيهما الإعلاميان هادي العبدالله وجميل الحسن، حيث يوثّق كلّ منها على حدة توقيف عثمان بوجود عناصر من الأمن العام، بينما يظهر الموقوف بكدمات إضافية وتورّمٍ، وليبنيَ البعض على صورته في التسجيلين صورةً معالَجة فنياً لوجه عثمان، مع المزيد من الكدمات وإضافة الحشرات القارصة فوق الوجه على سبيل التشفّي.
يُذكر أن تسجيل العبدالله نال خلال أقل من 48 ساعة ما يزيد عن مليون ونصف مشاهدة، وخلال المدة نفسها نال تسجيل جميل الحسن على قناته في يوتيوب قرابة 600 ألف مشاهدة، ونشرته صحيفة عربية كبيرة. على العموم يتقاطع تسجيل الحسن بالكثير من التفاصيل مع التسجيل الآخر، وتُظهر تفاصيل المكان ووجود العناصر فيه أنهما حدثا على التوالي.
يستهل هادي العبدالله تسجيله بالقول أن العدالة الإلهية تتحقق، مشيراً إلى القبض على المجرم تيسير عثمان، مع إشارة بيده إلى المتهم الواقف خلفه بين عناصر الأمن العام. بعد شروحات خطابية عن جرائم المتهم يشير العبدالله إلى أنه كان قد اعتقل عناصرَ الأمن العام الموجودين في التسجيل، وأن العدالة تكفّلت بأن يعتقلوا من اعتقلهم من قبل. ثم يسأل واحداً منهم ليحكي كيف اعتقله المتهم ونكّل به وبأسرته، وكذلك يسأل عنصراً آخر يقول أن أباه عرض على عثمان رشوة كي لا يعتقله، وعند هذا التفصيل ينظر العبدالله ليسأل عثمان عن المبلغ الذي عرضه الأب، وعما إذا كان يتذكر عنصر الأمن العام. ثم يعود العبدالله إلى عنصر الأمن العام الأول ليسأله عمّا يشعر به، ويستبق إجابته بالقول أنه (أي الإعلامي) يشعر بأن معنى حقيقياً للعدالة الإلهية يتجسّد بكونهما من ضمن ضحايا الموقوف، وأن الآية انقلبت فأخذ المظلوم حقه بيده!
في الإجابة يقول عناصر الأمن العام إن فرصة القبض على عثمان تضاهي فرحة النصر قبل شهور، أو فرحة القبض على بشار الأسد (لو أتيح ذلك). ويعاود العبدالله التأكيد على أنه مع ضحايا المجرم، وعلى أن “الأخوة في الأمن العام أخذوا حقهم بأيديهم”! ثم يتوجّه إلى عنصر جالس، يبدو أنه أعلى مرتبة، ليقول أن القبض عليه تمّ بعد ثلاثة شهور من المراقبة، وأنه أبدى مقاومة، ثم قال لهم إنه يتمنى الموت بدل أن يقبضوا عليه، منوّهاً بإنقاذهم إياه من المدنيين الذين نكّلوا به. وبعد حديث عن الرشاوى التي كان يتقاضاها المتهم يسأله العبدالله عن المبلغ الإجمالي لها، وعندما يُنكر التهمة يسخر منه، وكأنّه مخوّل أصلاً باستجوابه.
الحسن يفتتح تسجيله باستثارة المشاعر الدينية مشيراً إلى أن المتهم أتى فيما مضى إلى شخص وسأله: أتعلم من أنا؟ وعندما نفى معرفته به قال له: أنا ربك. في نهاية التسجيل يدعو العنصر الذي تحدث عن الرشوة في تسجيل العبدالله إلى التحدث، فيتوجه العنصر إلى المتهم مذكّراً إياه بما فعله به وبأهله، ليثني في النهاية على العدالة الإلهية. لا تُسمع في التسجيل مخاطبة المتهم بـ”يسعد هالمسا”، لكن الحسن يشير إليها مستغرباً تسامح العنصر الذي قالها، فيرد الأخير بأن الناس الذين في الخارج لم يقصّروا به، ثم يتبادلان الضحك.
لقد احتوى التسجيلان على العديد من العناصر التي تطعن في مهنية القائمين عليه، وفي حصول المقبوض عليه على الحماية القانونية بموجب المواثيق الدولية التي أعلنت الحكومة الحالية التزامها بها. ومن نافل القول إن الحسن والعبدالله لم يذهبا من تلقاء نفسيهما إلى مقر الأمن العام، بل استُدعيا إلى المسرح المعدّ للعرض الذي قدّمه كلّ منهما على التوالي، بما في ذلك التفاصيل التي تتضمن التشفّي بالمتهم، أو التعامل معه بما يتعدّى الأصول المهنية من قبل الإعلاميين.
الخطير هو في تقديم تجاوز مهني من قبيل تسليم المتهم لعناصر لديهم معه ثأر شخصي أصلاً، بل تصويره بمثابة عدالة إلهية، وكأنّ الأمر يتعلق بسيناريو مشوّق لفيلم تقليدي لا برسالة عن العدالة، وضرورة تقديم أمثولة مغايرة لما كان عليه الحال أيام ارتكب المتهم الجرائم والانتهاكات المنسوبة إليه. الخطير هو التطبيع مع فكرة الإعلامي الذي يشارك في التنكيل البصري واللفظي بالمتهم، أو يوجّه له أسئلة ليست من لوازم عمله، وهو ما قد حدث من قبل رفقة الأمن العام أيضاً، ولم تبادر أية مؤسسة إعلامية أو نقابية إلى الاحتجاج على ما يسيء إلى شرف المهنة.
يُذكر أن سوريي الثورة استنكروا ممارسات لإعلاميين تستهين بالكرامة الإنسانية لمعتقلين أو شهداء أيام العهد البائد، بل إن معظم السوريين قبل الثورة كانوا يسخرون من مذيع يقدّم لقاءات مع مدانين بجرائم جنائية. تكرار هذه الممارسات ينتقص من استنكارها في الأمس القريب، ويرسّخ الاستهتار بالقانون، وحتى المحتفلين بذلك الآن سيتسرب إلى أذهانهم شعور بأن التغيير الذي كان يُطالَب به لم يحدث.
واستحضار فكرة العدالة الإلهية، مع التركيز عليها كما ورد في التسجيلين، هذا الاستحضار يحيل مباشرة إلى فكرة الثأر، أكثر بكثير مما يحيل إلى رحابة فكرة العدالة الإلهية لدى عموم المؤمنين. فقد كانت العدالة الإلهية دائماً بمثابة سلوى للضعفاء الذين ينتظرون من الله أن يقتص ممّن أجرم في حقهم، ولم ينظروا إطلاقاً إلى القصاص على أنه من نوع الفعل، وميّزوا جيداً بين العدالة الإلهية والثأر، حيث في الثاني منهما تقتص الضحية لنفسها فلا تنتظر الأولى.
مع مشهد الكدمات التي تفضح ما تعرّض له المُتّهم، تُسرد من قبل الحاضرين في التسجيلين التهمُ الموجّهة إليه، ويُسهَب في شرح توحّشه. هكذا، من دون قولها صراحة، يُبرَّر التنكيل الحالي بالإجرام السابق، بل يبدو عقوبة مخفَّفة لما يستحقه، فضلاً عن الإشارة إلى الجمهور الهائج المتعطّش إلى المزيد. وسواء كانت هذه المقاربة عن جهل أو عن خبث فهي تذهب إلى التطبيع مع العنف والتوحّش، بل تصوّرهما نوعاً من إحقاق العدالة، وترسّخ فكرة أن ما فعله الأسد وشبيحته أشد توحّشاً من أن يتم الاكتفاء بالعدالة التقليدية أو الانتقالية، بسبلهما القانونية المعهودة.
الخطير جداً أن النظر إلى وحشية هؤلاء، وما يستحقونه وفقها، يحجب عن الأبصار ما يستحقه عموم السوريين، وفي مقدمهم أولياء الضحايا من حيث أن ردّ الاعتبار لكراماتهم الإنسانية لا يكون بهدر الكرامة الإنسانية مرة جديدة. الأمر هنا يتعلق أولاً وأخيراً بكسر تلك الحلقة المرعبة من امتهان كرامة السوريين، ومن المؤسف أن يروّج كثر للمطالبة بالالتزام بالمعايير القانونية الدولية بوصفها نخبويةً، ما يقوّض تالياً أحقيتها في العموم، ويستحضر هؤلاء قسوة معاناة الضحايا للنطق باسمهم.
هناك جمهور سوري واسع متعطّش حقاً للعدالة، ومن المهين له قبل أي اعتبار آخر تصويره متعطّشاً للثأر والتنكيل بالمجرمين. أما الأذى المستدام الذي يحدث بترويج تسجيلات وصور المنكَّل بهم فهو التطبيع مع العنف، مروراً بالتطبيع مع فكرة الثأر، ومما يلفت الانتباه أن توزَّع قبل يومين أيضاً صورة شديدة القسوة للعميد الطيار الذي قُتل حمص، والمتهم خصوصاً بإلقاء البراميل المتفجرة على المناطق الثائرة ضد الأسد. القول إن هذه الصور تشفي غليل الضحايا، وترويجها، هما تعويض عن عدم إحقاق العدالة، لكنه الثمن الذي يدفعه الضحايا مرة ثانية إذ تألف أجيال جديدة مشاهد العنف، وتكون قلة منهم فقط مستعدة لممارسته على الكثرة التي تشبّعت بالاستكانة له.