بمشاركة أكثر من 400 شخصية سياسية ومجتمعية، اختتم “المؤتمر الوطني الكردي الموحد” أعماله في القامشلي شمال شرق سوريا، معلناً ما وصفه بوثيقة تأسيسية لرؤية كردية مشتركة لمستقبل سوريا. وقد شكّل المؤتمر، الذي عُقد وسط ترحيب واضح من مختلف الأطراف الكردية، لحظة استثنائية في مسيرة الأكراد السوريين، لكنه حمل في طياته أيضاً بوادر تناقضات قد تعوق تنفيذ أهدافه الطموحة.
المؤتمر، الذي اختُتم ببيان ختامي طموح، حمل في مضمونه بذور مشروع سياسي يسعى إلى إرساء سوريا “ديموقراطية لامركزية”، مع ضمان “الحقوق القومية للشعب الكردي”، وطرح وثيقة تأسيسية دعت إلى اعتمادها كمرجعية للحوار مع الدولة السورية والقوى الوطنية الأخرى. غير أن قراءة متأنية لمخرجات المؤتمر تظهر جملة من التناقضات الجوهرية، سواء في صياغة الرؤية السياسية أو في تصور شكل الدولة السورية المقبلة، ما يثير تساؤلات جدية عن قابلية هذه الوثيقة للتطبيق العملي.
ارتباك بين الحياد الديني والغموض في تصور الدولة
من أبرز التناقضات التي حملتها الوثيقة، مطالبتها من جهة بـ”حيادية الدولة تجاه الأديان والمعتقدات”، ومن جهة أخرى بالاعتراف بالديانة الإيزيدية كـ”ديانة رسمية” في الدستور السوري. وفي تعليق لـ”لبنان الكبير”، اعتبر الدكتور إبراهيم الفاروق، الباحث في الفقه الدستوري، أن “الجمع بين الدعوة لحياد الدولة ومطالبتها بالاعتراف الرسمي بديانة معينة يظهر ارتباكاً في تحديد طبيعة النظام السياسي المنشود”، مضيفاً أن “الحياد الديني يتناقض مع منح امتيازات رسمية لأي دين، لأن الدولة حينها تكون قد خرجت من الحياد”. هذا الارتباك قد يفتح الباب لانتقادات حادة من الأطراف السورية الأخرى التي تطالب بدولة مدنية جامعة تتساوى فيها الأديان والمعتقدات من دون امتيازات خاصة.
وفي سياق متصل، طرحت الوثيقة الختامية للمؤتمر مفهوماً آخر مثيراً للجدل يتعلق بطبيعة النظام الاداري والسياسي لسوريا المستقبلية؛ فمن جهة دعت إلى “توحيد المناطق الكردية كوحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سوريا اتحادية”، ومن جهة ثانية أكدت “ضرورة بناء دولة لامركزية تضمن توزيعاً عادلاً للسلطة والثروة”. وهنا، كما يوضح الناشط السياسي يان النميري لـ”لبنان الكبير”، أنه “يجب التفريق بين النظام الاتحادي الذي يعني قيام أقاليم بحكومات محلية تتمتع بدساتير مستقلة إلى حد ما كما في الولايات المتحدة وألمانيا، وبين اللامركزية الادارية التي تعني توزيع بعض الصلاحيات مع بقاء الحكومة المركزية قوية كما هو الحال في فرنسا”. ويضيف النميري: “استخدام المصطلحين بالتبادل يكشف غموضاً في الرؤية الكردية أو محاولة لإرضاء كل الأطراف من دون تقديم تصور واضح”. هذا الغموض، بحسب محللين، قد يُعقد المفاوضات المرتقبة مع الحكومة السورية، التي كانت ولا تزال ترفض بشدة أي مشروع فيدرالي ترى فيه تهديداً لوحدة البلاد.
الأرضية السياسية: خطوة للأمام أم قفزة في الفراغ؟
على الرغم مما سبق، لا يمكن التقليل من أهمية المؤتمر كخطوة أولى نحو ترتيب البيت الكردي الداخلي. فبحسب أحد المشاركين في المؤتمر، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه لـ”لبنان الكبير”، انها “المرة الأولى التي نشهد توافقاً واسعاً بين مختلف الأطراف الكردية حول وثيقة موحدة، بعد سنوات طويلة من الخلافات والانقسامات”، مضيفاً أن “تشكيل وفد كردي مشترك للتفاوض مع دمشق خطوة مفصلية قد تفتح الباب أمام الاعتراف بحقوق الأكراد”. وقد شدد قائد “قوات سوريا الديموقراطي” مظلوم عبدي، في كلمته الافتتاحية على أن المؤتمر “ليس من أجل تقسيم سوريا بل لتثبيت وحدة البلاد عبر ضمان حقوق مكوناتها كافة”، مؤكداً أن “13 ألف شهيد قدموا دماءهم على أرض هذه البلاد دفاعاً عن حرية الشعوب”. ومع ذلك، تبقى مسألة قبول دمشق بأي صيغة تتضمن اعترافاً رسمياً بالهوية القومية الكردية، أو حتى بالحقوق اللغوية والثقافية الكاملة، موضع شك كبير، في ظل تمسك النظام السوري بشعار “سوريا الواحدة الموحدة”، ورفضه التقليدي لمشاريع الفيدرالية أو الحكم الذاتي.
تعقيدات إضافية: الداخل والخارج ومستقبل مفتوح
لا تقتصر تحديات الوثيقة الكردية على الداخل السوري فحسب، بل تمتد إلى الاقليم أيضاً. فأنقرة، التي تراقب بقلق أي حراك كردي في المنطقة، ترى في مثل هذه المشاريع تهديداً لأمنها القومي، ولا تخفي استعدادها لاستخدام القوة العسكرية لمنع إقامة أي كيان كردي متصل جغرافياً على حدودها الجنوبية. وفي هذا السياق، أشار تقرير لمركز “جنيف للدراسات الأمنية”، حصل “لبنان الكبير” على نسخة منه، إلى أن “نجاح أي مشروع سياسي كردي في سوريا سيتطلب توافقاً دولياً دقيقاً، خصوصاً بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا”، وهو توافق يبدو بعيد المنال حالياً.
وختاماً، يطرح مؤتمر القامشلي أكثر مما يجيب. ففي الوقت الذي أرسى فيه أرضية أولى لوحدة الصف الكردي، فإنه كشف أيضاً حجم التعقيدات التي تنتظر مشروع الأكراد في سوريا. بين الفيدرالية واللامركزية، بين حيادية الدولة والاعتراف الديني، بين وحدة الأراضي السورية والخصوصية الكردية، يقف مشروع المؤتمر أمام اختبار سياسي قاسٍ في مرحلة دقيقة من مستقبل البلاد. فهل تنجح الوثيقة التأسيسية في خلق توافق سوري – كردي حقيقي، أم تتحول إلى ورقة أخرى على طاولة صراع طويل الأمد؟