في واحدة من أكثر المحطات حساسية بعد سقوط النظام البائد، عاشت مدينة جرمانا، الواقعة شرق العاصمة دمشق، على وقع توتر غير مسبوق، بعد تفجر اشتباكات دامية جاءت على خلفية تسجيل صوتي مسيء الى الدين الإسلامي، نُسب إلى شاب من الطائفة الدرزية. الحادثة، التي أخذت طابعاً طائفياً خطيراً، كشفت هشاشة التعايش الأهلي في المنطقة، وأعادت تسليط الضوء على خطورة الخطاب التحريضي والانقسامات العميقة داخل النسيج السوري.
تصعيد دموي على خلفية تسجيل صوتي
اندلعت شرارة الأحداث فجر الثلاثاء، بعد انتشار تسجيل صوتي اعتُبر مسيئاً الى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتناقلته صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة، مترافقاً مع دعوات غاضبة إلى “الرد” والثأر. وسرعان ما تحولت الدعوات إلى اشتباكات عنيفة استهدفت حاجزاً أمنياً عند مفرق “النسيم”، وهو نقطة تماس بين مدينة جرمانا وبلدة المليحة المجاورة.
وبحسب مصادر ميدانية تحدثت إلى موقع “لبنان الكبير”، فإن الاشتباكات استمرت لعدة ساعات وأسفرت عن سقوط ثمانية قتلى بينهم مدنيون وعناصر أمنية، فضلاً عن إصابة أكثر من 12 شخصاً، في واحدة من أعنف جولات العنف الطائفي في ضواحي دمشق منذ سنوات.
على الرغم من أن وزارة الداخلية السورية نفت بصورة أولية صحة نسب التسجيل إلى الشاب المتهم، إلا أن الأمر بدا وكأنه خرج من يد الجهات الرسمية، وتحول إلى أزمة أمنية وأهلية معقدة. بحسب بيان الداخلية، فإن “التحقيقات لم تثبت حتى الآن صحة التسجيل أو نسبة الصوت إلى الشخص المذكور”، إلا أن الغضب الشعبي كان قد بلغ مداه، مهدداً بانفجار أهلي واسع في مدينة طالما عُرفت بتنوعها الطائفي والمجتمعي.
تهدئة مشروطة
في ظل القلق المتزايد، تدخّلت شخصيات رسمية ودينية واجتماعية من مختلف أطياف المجتمع في جرمانا للتوصل إلى اتفاق ميداني تم التوقيع عليه مساء الثلاثاء، بحضور وفد من محافظة ريف دمشق برئاسة الدكتور محمد علي عامر، والأستاذ أحمد طعمة، مسؤول الشؤون السياسية في المحافظة، إضافة إلى مشايخ ووجهاء من مختلف الطوائف.
وبحسب ما أفادت مصادر رسمية موقع “لبنان الكبير”، فإن الاتفاق تضمّن البنود التالية:
– تعويض حكومي لعائلات الضحايا والمصابين.
– محاسبة المتورطين في إطلاق النار وتقديمهم إلى القضاء.
– توحيد الخطاب الاعلامي الرسمي والمحلي لمنع التحريض الطائفي أو المناطقي.
– ضمان حرية التنقل بين دمشق والسويداء وتخفيف الاجراءات الأمنية المشددة.
– وقف الحملات الالكترونية التي تُذكي النعرات الطائفية، والعودة إلى خطاب عقلاني متزن.
رافق الاتفاق تعزيز أمني واضح في محيط المدينة، إضافة إلى سحب محدود لمجموعات مسلحة كانت قد تمركزت على مداخل جرمانا خلال ذروة الاشتباكات. وعلى الرغم من الأجواء المشحونة، لاقى الاتفاق ارتياحاً نسبياً لدى سكان المدينة، وإن كان مشوباً بالحذر والشك.
الانقسامات الدرزية تعود إلى الواجهة
من زاوية أكثر تعقيداً، سلطت أحداث جرمانا الضوء على الصراع الداخلي داخل الطائفة الدرزية نفسها، لا سيما ما يتعلق بتباين الخطاب بين مرجعياتها الدينية، ومستوى التنسيق غير المعلن مع قوى خارجية.
الدكتور أحمد الخلف، الناشط في “التحالف السوري الوطني”، قال في حديث خاص لموقع “لبنان الكبير” إن ما حدث في جرمانا “ليس سوى نتيجة لاحتقان سياسي وطائفي مزمن تغذّيه جهات معروفة داخل السويداء”، مضيفاً أن “بعض المرجعيات يسعى صراحة إلى تفكيك الدولة السورية، مستغلاً الحوادث الفردية لتكريس مشاريع انفصالية مدعومة خارجياً”.
الخلف وجّه اتهاماً مباشراً إلى الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز مشايخ الطائفة الدرزية في سوريا، بالتماهي مع خطاب “انفصالي فيدرالي” قال إنه مدعوم من موفق طريف، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في إسرائيل، مضيفاً: “تصريحات شيخا العقل يوسف جربوع وحمود الحناوي كانت متزنة ومسؤولة، ودعت إلى التهدئة والوحدة الوطنية، في حين أن الهجري يسير بخطاب يخدم مشاريع غير وطنية”.
مدينة على حافة الانهيار الأهلي
بحسب سكان من مدينة جرمانا تحدثوا لـ “لبنان الكبير”، فإن جرمانا اليوم ليست مدينة مضطربة أمنياً وحسب، بل تعكس بوضوح حجم الفجوة بين الدولة السورية ومجتمعها المحلي. فالتراخي في ضبط الخطاب الطائفي، وترك الساحة للإشاعات ووسائل التواصل غير المنضبطة، أديا إلى تضخيم الأزمة وتحويلها إلى شرخ مجتمعي.
يُذكر أن جرمانا كانت قد لعبت دوراً بارزاً خلال السنوات الأولى من الثورة السورية كمركز نزوح رئيسي للعائلات من مختلف المحافظات، وشكّلت نموذجاً شبه فريد في التعايش بين السنة والدروز والمسيحيين. إلا أن تفاقم الضغوط الاقتصادية، وضعف المؤسسات الأمنية، ساهما في تقويض هذا التعايش تدريجياً.
التهدئة ممكنة.. ولكن!
على الرغم من التوصل إلى اتفاق ميداني يهدف إلى نزع فتيل الأزمة، فإن التوتر لا يزال كامناً، بانتظار أي شرارة جديدة. أحداث جرمانا تضع الدولة السورية أمام اختبار جديد للتماسك الوطني، وتدعو إلى مراجعة جذرية للخطاب الديني والسياسي الذي يتسبب في كل مرة بكسر إضافي في جسد الوطن المنهك.
المطلوب اليوم ليس تهدئة ميدانية مؤقتة وحسب، بل إعادة إنتاج العقد الاجتماعي السوري على أسس قانونية ودستورية واضحة، تُعيد الاعتبار الى مفهوم المواطنة، وتمنع تكرار السيناريوهات الطائفية التي تهدد مستقبل البلد بأسره.