ماذا يحدُث في جرمانا… مشروع فتنة يُخطّط لها، وليس مجرّد “إشكال”، كما يقول إخوتنا اللبنانيون. وإذا لم تكن إسرائيل وراء ذلك مباشرة (وهذا ليس مُستبعَداً نظرياً على الأقلّ)، فإنها تفيد منه، بل إنه يندرج في إطار مخطّط لم تُخفه منذ أحداث جرمانا السابقة في نهاية مارس/ آذار الماضي، وهو القيام بدور حامي الأقلّيات في المنطقة، ومنها الدرزية، بحسب ما أكّد في حينه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير أمنه.
صحيحٌ أن إسرائيل تكيد لنا وتخطّط، ولكن ذلك لا يكفي لفهم ما يحدُث قبل البحث عن سبل تفكيكه، فبعد سقوط الرئيس الفارّ بشّار الأسد، حرص كثيرون من أعداء ومتربّصين ومتضرّرين على فتح صندوق باندورا دفعةً واحدةً، وإطلاق الشرور كلّها في وجه السوريين، وليس العهد الجديد، عقاباً لهم على إطاحة نظام الأسد، ومنها المناطقية والإثنية والطائفية. وإذا كانت ثمّة مظلومياتٌ فهي جماعية، عابرة للطوائف والإثنيات والمناطق، لكن إذا كان ثمّة من حلول فعليها ألا تكون عابرةً، فتقفز عن الخصوصيات، وبعضها مفهوم وحقيقي وكثيرها زائفٌ ومضخّم، ما يعني أن على العهد الجديد، الذي يتسم ببطء الأداء والاستجابة، ويُولي العلاقات مع العالم الخارجي الأهمية الكبرى على حساب ملفّاتٍ داخلية لا أوّل لها ولا آخر، أن يتوقّف قليلاً عن لعبة أن “الأمور بخير” وأن “الوقت كفيلٌ بحلّ ما يستعصي منها”.
ومن هذه الملّفات ملفّ دروز البلاد، وهم الكتلة الكبرى من دروز العالم، وكثيرون منهم تضرّروا في عهد الرئيس الفارّ، ومنهم من تواطأ وتصرّف باعتباره كتلةً منفصلةً عن عموم مواطنيه، واعتصم بأقلّويته علّها تمنحه استثناءً أو مزايا، وعندما خاب ظنّه انقلب على بشّار، بعد أن شارف الأخير على الرحيل. ليس هنا مجال التلاوم والاتهامات، بل التفهّم للتوصّل إلى حلول، ومنها أن يتحرّك العهد الجديد فعلياً لتطويق ما قد يُصبح حصان طروادة إسرائيلياً، يفكّك البلاد، أو يجعلها مهيّأةً للتقسيم، فلا تكفي الابتسامات وتغيير الزي وارتداء ربطات العنق لإقناع العالم بأننا تغيّرنا، ونستجيب لمتطلّبات الغرب ومعاييره وإكراهاته، ونحن نقارب أزماتنا الصغيرة بذهنية التنظيم لا الدولة، فحتى التشكيل الوزاري كان مرتجلاً، ومن حواضر البيت، أو التنظيم وأصدقائه للدقّة، فلا انخراطَ شاملاً وحقيقياً في الأزمات الصغيرة التي تُترَك للمحافظين، ومَن هم في طبقتهم، بينما كان يفترض أن يكون ملفّ دروز البلاد وأكرادها من اختصاص الرئاسة نفسها، هل رأيتم الرئيس أحمد الشرع في السويداء؟
لا يعني هذا تبرئة بعض الأطراف الذين يُصعّدون ولا يخفون ما في صدورهم، ولكن هؤلاء يظلّون أفراداً، حتى لو تجمّع حولهم الآلاف، وبالإمكان عزلهم في نهاية المطاف بنزع شرعيتهم المدّعاة في التمثيل من الداخل، وهذا لا يمكن أن يحدُث من دون أن تكون الرئاسة السورية منخرطةً في حوار حقيقي مع هؤلاء وأنصارهم، وزعرانهم أيضاً، أمّا الرهان على الوقت فيفاقم المظلوميات ويكرّس الشرعيات المتوهّمة.
وليس معقولاً أن يكون وليد جنبلاط أكثر استشعاراً لخطر الفخّ الإسرائيلي المنصوب للدروز السوريين من الشرع نفسه، وأن يدعو الزعيم اللبناني إلى اجتماعات، ويجري اتصالات، بينما لا يفعل ذلك الرئيس السوري الجديد، الذي يراهن على ما يبدو على حلّ درزي داخلي من دون تدخّل، ولو كان هذا الظنّ صحيحاً فهذه كارثة، لأن الدروز السوريين هم مواطنون سوريون أصيلون، ليس مطلوباً عزلهم، أو حتى تمييزهم إيجاباً باعتبارهم أقلّية، بل “توطينهم” بالمعنى القانوني، فلا هم أفضل ولا أقلّ من سواهم أمام القانون، شرط تمتّعهم بمزايا المواطن، وبالقانون لا بالرشى، أمّا ترك الملفّ مفتوحاً فوصفة للتقسيم، وفرصة للمتربّصين الذين يريدون معاقبة الشعب السوري على إطاحته أسوأ جزّار في العالم.
وكانت رحلة بضع عشرات من الدروز السوريين إلى إسرائيل، لزيارة مقام النبي شعيب، مؤشّراً إلى عجز العهد الجديد في تحديد أولوياته، وكان صمته مؤشّراً على تغليبه رضا الغرب على متطلّبات المرحلة الانتقالية، وكان عليه من حينه أن يتعامل بجدّية أكبر، إلا إذا كان يعرف ماذا يفعل ولماذا صمت، وهو التمهيد لعلاقاتٍ مع إسرائيل. وفي هذه الحال، تعرف إسرائيل أكثر من غيرها أن الإساءة لسيّدنا محمّد ستُغضب أنصار الشرع أكثر من مصافحة زعماء جرمانا، فلماذا لا نضغط أكثر حتى يأتي إلينا بشروطنا.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News