حياتنا سلسلة من “البلاوي”
الأخبار، سيئة أو لا تكون؛ أفضل من عبّر عن هذه الحقيقة هم الإنجليز بالمثل القائل “No news is good news” أي: “لا أخبار، خبر جيد”.
وعادةً، يُترجم المثل بمثلٍ مقابل، ولكن مهما بحثت لن تجد مقابلاً دقيقًا لهذا المثل في اللغة العربية. قد يكون سبب ذلك أن حياة العرب، منذ أن صحوا على خبر سقوط غرناطة، لم تخلُ يومًا من الأخبار السيئة.
أقرب ما أمكنني العثور عليه في المأثور العربي هو “الجهل نعمة”، أو “الصمت من ذهب”، أو “ما لا تعرفه لا يمكن أن يؤذيك”. كلها أمثلة تدور حول المعنى، لكنها لا تحمل الدقة التي يتميز بها المثل الإنجليزي.
لهذا السبب كان علينا أن نبتكر مفهومًا خاصًا يتوافق مع واقعنا، فلم نجد أفضل من “شرّ البلية ما يضحك” للتعبير عنه.
ولأن حياتنا سلسلة من “البلاوي”، ابتكرنا نمطًا من الكتابة تفرّدنا به منذ العصر العباسي، نسخر فيه من مصائبنا، وهي كثيرة. ويعود الفضل في هذا الابتكار إلى بديع الزمان الهمذاني، مؤسس فن المقامات، الذي مزج بين الفكاهة والوعظ والتشويق، ليقدم صورًا حية يلتقطها من الحياة الاجتماعية والثقافية وما يدور حوله من أحداث.
ماذا لو تخيلنا أن بديع الزمان الهمذاني ما زال حيًا يعيش بيننا، ينقل إلينا ما يدور من أحداث، يرويها على لسان أبي الفتح الإسكندري، حول أمّةٍ اصطفاها الله عن باقي الأمم، وحباها بموقع هو الأهم جغرافيًا، ومناخٍ معتدل، وثرواتٍ تحسدها عليها باقي الأمم والشعوب، لكنها بدلاً من أن تتجه إلى البناء والعلم، تفرغت للاقتتال والتحارب حول صغائر الأمور.
اثنان وعشرون بلدًا عربيًا، نستثني منها واحدًا أو اثنين، بالكاد تخلو من “البلاوي” التي جلبناها على أنفسنا، ولم يجلبها علينا أحد، تشكل الأخبار الصادرة عنها يوميًا مادة دسمة تصلح لأن يرويها أبوالفتح الإسكندري.
ماذا سيقول أبوالفتح عن بلدٍ مثل السودان، يفترض أن يكون سلة غذاء للعالم، لكنه يعيش اليوم في مجاعة، و9.5 مليون من أهله لاجئون في مصر؟ ماذا سيقول عن اليمن، الذي يفترض أنه “البلد السعيد” حسب المرويات، لكن أهله محاصرون بالتعاسة؟ ماذا سيقول عن بلاد الرافدين، المهددة بالجفاف؟ وماذا سيقول عن الخلافات الدائرة بين السوريين واللبنانيين والعراقيين، الذين لم يحسموا بعد خلافاتهم حول من أحق بالخلافة، علي أم أبوبكر؟
الإسكندري كان سيذهل لو علم أن ليبيا، التي تبلغ مساحتها 1.77 مليون كيلومتر مربع، ويعيش كل 3.6 من سكانها في كيلومتر مربع واحد، لم تحسم خلافاتها بعد 14 عامًا من التخلص من حكم معمر القذافي.
وهل هناك ما يمكن أن يقال عن إصرار الجزائر على التمسك بالماضي واختراع أعداء وهميين؟
كنت أسخر من ادعاءات البعض بأن “دون كيشوت” ذا جذور وأصول عربية، وأن مؤلف الرواية الإسباني ميغيل دي ثيربانتس استلهم الشخصية من التراث العربي الإسلامي. اليوم، أراجع قناعاتي، وأضم صوتي إلى أصواتهم؛ فمن غير العرب يمكن أن يخترع أعداء وهميين ويحاربهم؟ ومن غير العرب يرمي بنفسه إلى التهلكة رغم التحذير الإلهي؟ ومن غيرهم يحارب طواحين الهواء؟