في لحظة تُنذر بتحولات جذرية في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، تزايدت المؤشرات التي توحي بأن سوريا – التي لطالما كانت في طليعة الدول الرافضة للتطبيع – باتت تقترب بخطى محسوبة من اتفاق سلام محتمل مع إسرائيل، بوساطة أميركية، وبرعاية سعودية وتركية.
وتأتي هذه التطورات في ضوء تأكيد المندوب الأميركي في مجلس الأمن، روبرت وود، على تنفيذ قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب برفع العقوبات عن سوريا، مقابل حزمة مطالب ذات طابع سياسي وأمني أبرزها توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، تدمير مخزون الأسلحة الكيميائية، وتولي دمشق مسؤولية مراكز احتجاز عناصر تنظيم “داعش” في شمال شرقي البلاد.
وقال وود خلال جلسة لمجلس الأمن: “نحن ملتزمون بتنفيذ قرار الرئيس ترامب بشأن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، بشرط التزام دمشق بالمتطلبات الأمنية والسياسية، وعلى رأسها الانخراط في عملية سلام مع إسرائيل، وإغلاق ملف الأسلحة الكيميائية بالكامل”.
الرئيس السوري يفتح الباب… لكن “لا اتفاق دون شروط“
التصريحات الأميركية تزامنت مع تسريبات مدوية نشرها عضوان في الكونغرس الأميركي، أكدا فيها أن رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، أبدى خلال لقاء خاص معهما الشهر الماضي انفتاحاً على الانضمام إلى اتفاقيات “أبراهام”، والسير نحو اتفاق مع إسرائيل، لكن ضمن شروط صارمة تتعلق بالسيادة السورية، ووقف الانتهاكات الإسرائيلية.
النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا، كوري ميلز، كشف في تصريح لصحيفة “نيويورك بوست” أن الشرع قال له خلال اللقاء: “نحن منفتحون على الحوار، وقد نوقشت معنا مسألة الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم والتطبيع مع إسرائيل، لكن يجب أن يتوقفوا عن القصف داخل بلدنا”.
أما النائب الجمهوري عن ولاية إنديانا، مارتن ستوتزمان، فقال إنه التقى بالرئيس الشرع خلال زيارة رسمية، وكان شاهداً على تصريحات غير معلنة سابقاً، إذ صرح له الأخير: “سيكون منفتحاً على اتفاق مع إسرائيل شرطين رئيسيين: أولهما أن تتوقف محاولات تقسيم سوريا طائفياً أو إقليمياً، وثانيهما هو التوصل إلى تفاهم أو تسوية بخصوص هضبة الجولان”.وأضاف ستوتزمان: “لم يقل إن استعادة الجولان شرط، لكنه أصر على أن يتم التفاوض على هذه القضية. قال بوضوح: لا اتفاق بدون معالجة قضايا السيادة”.
انضمام مفاجئ لاتفاقيات (أبراهام)
وفي تطور بارز، أثار الرئيس الأميركي دونالد ترامب موجة من الجدل بعد زيارته إلى دول الخليج، حيث صرّح عقب لقائه بالرئيس السوري قائلاً: “الشرع الشاب الوسيم سينضم إلى اتفاقيات إبراهيم… وهذا إنجاز رئيسي في رؤيتنا لمنطقة مستقرة وآمنة”.
هذا التصريح لم يكن مجرد كلام عابر، بل كشف عن نوايا سياسية جدية لإدخال سوريا – آخر معاقل المحور المعادي للتطبيع – في دائرة جديدة من العلاقات الإقليمية، تشكل إعادة تموضع جيوسياسي شامل للمنطقة.
اللواء محمد عبد الواحد، مستشار الأمن الإقليمي والعلاقات الدولية، من القاهرة اعتبر أن اللقاء بين ترامب والشرع في الرياض، والذي رعته السعودية وتركيا، يشكل نقطة تحول استراتيجية في الشرق الأوسط.
وقال في تصريحات لـ”963+”: “هذا اللقاء لم يكن عادياً، بل يعكس رغبة أميركية جادة في إعادة هيكلة التحالفات الإقليمية، مع السعودية وتركيا في موقع القيادة. المطلوب من سوريا هو الانخراط في التحالف الإقليمي الجديد، والانفصال الكامل عن المحور الإيراني، في إطار استراتيجية أمريكية تهدف إلى تقليص نفوذ طهران في المنطقة وتعزيز الاستقرار الإقليمي”.
وأكد عبد الواحد أن الرئيس الشرع أبدى مرونة تجاه المطالب الأميركية، ومن أبرزها: الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، إقامة سلام مع إسرائيل، طرد المقاتلين الأجانب، وتحمل مسؤولية مراكز احتجاز تنظيم “داعش” شمال البلاد.
وأضاف أن هذه المطالب، “مقابل رفع العقوبات وتقديم حوافز مالية من دول الخليج، تمثل إطارًا تفاوضيًا جديدًا قد يسمح بعودة سوريا إلى المجتمع الدولي، بشرط الالتزام بالرؤية الأمريكية الجديدة للمنطقة”.
وأشار عبدالواحد إلى أن “اتفاق السلام المحتمل بين سوريا وإسرائيل سيكون جزءاً من إعادة صياغة شاملة للعلاقات العربية الإسرائيلية، تقودها السعودية، ضمن رؤية مشتركة مع واشنطن وأنقرة لتوسيع اتفاقيات إبراهيم”.
وأضاف أن “الاتفاق المزمع لن يشمل قضايا خلافية مثل الجولان أو جبل الشيخ في المرحلة الحالية، على أن يتم تأجيل هذه الملفات المعقدة”.
ونوّه إلى أن “الاتفاق سيتضمن ترتيبات أمنية صارمة، تتضمن إنشاء منطقة عازلة جنوب سوريا، بإشراف دولي، ومنع تواجد أي مليشيات موالية لإيران في الجنوب السوري، خاصة حزب الله، مع احتمال تعزيز قوات فض الاشتباك وفق اتفاق عام 1974، وتوسيع آليات المراقبة الإقليمية والدولية”.
واختتم اللواء عبدالواحد تصريحه بالتأكيد على أن اللقاء حمل رسائل مزدوجة: “دعم النظام السوري الجديد، وتحقيق مكاسب استراتيجية أمريكية، عبر إعادة تموضع سوريا ضمن تحالفات غربية، وإضعاف محور المقاومة، بما يسهم في تشكيل شرق أوسط جديد، يتسم بالتحالف مع واشنطن، والتقارب العربي-الإسرائيلي”.
اقرأ أيضاً: الخارجية الأميركية: نجاح الإدارة الانتقالية سيبعد شبح الحرب الأهلية عن سوريا – 963+
“التطبيع مرفوض إن لم يكن متوازناً”
من دمشق، علّق المحلل السياسي السوري علاء الأصفري بحذر بالغ، مؤكداً أن الحديث عن سلام مع إسرائيل دون معالجة القضايا السيادية والحقوقية الجوهرية مرفوض شعبياً وسياسياً.
وقال في تصريحات لـ”963+”: “التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل هو عملية معقدة للغاية في السياق السوري، بسبب الانتهاكات المستمرة، سواء في فلسطين أو في الجولان وقمم جبل الشيخ. إسرائيل تريد اتفاقاً دون أي تنازلات، وهذا غير مقبول”.
وأضاف: “أي اتفاق يجب أن يُبنى على أساس توازن في الحقوق. لا يمكن أن يكون مجرد ضغط أميركي لفرض التطبيع دون تقديم ضمانات جدية لسوريا. القيادة الجديدة واضحة: لا تنازل عن السيادة الوطنية، ولا قبول بأي وجود أجنبي لا يتفق مع الإرادة الشعبية”.
واختتم تصريحه بالقول: “قد تقبل دمشق بهدنة أو تفاهم مرحلي، شريطة الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 1967 أو على الأقل احترام خط وقف إطلاق النار لعام 1974. أي مساس بالسيادة أو محاولة فرض وقائع مرفوض تماماً”.
اقرأ أيضاً: اتفاق إسرائيلي – تركي على تجنب الصدام العسكري في سوريا – 963+
تركيا وإسرائيل تنسقان عسكرياً في سوريا
على هامش هذا التصعيد السياسي، كشفت مصادر صحفية أميركية وإسرائيلية عن تطور ميداني بالغ الأهمية، تمثل في توصل تركيا وإسرائيل إلى اتفاق لتجنب الاشتباك داخل الأراضي السورية، بعد أربع جولات تفاوضية عُقدت في العاصمة الأذربيجانية باكو.
ووفقاً لموقع “ميدل إيست آي” وصحيفة إسرائيل هيوم”: “تم الاتفاق على إنشاء خط اتصال مباشر دائم بين الجيشين الإسرائيلي والتركي، ووافقت تركيا على نشر قواتها البرية في بعض المناطق بشرط عدم استخدام أنظمة دفاع جوي أو رادارات ترصد الطيران الإسرائيلي، ولم تعترض إسرائيل على الانتشار التركي، شرط عدم تهديد عملياتها الجوية، خصوصاً قرب تدمر ومطار T4. تمسكت إسرائيل بجعل جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح بالكامل”.
وتشير كافة المؤشرات إلى زخم دولي وإقليمي متصاعد يدفع باتجاه تطبيع سوري – إسرائيلي، كجزء من إعادة تشكيل المعادلة الجيوسياسية للمنطقة. لكن العقبات ما تزال حقيقية وعميقة، لا سيما ما يتعلق بوحدة الأراضي السورية، انسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة، ووقف القصف المتكرر.
وفيما تسعى الولايات المتحدة والسعودية وتركيا إلى ضمان ترتيبات انتقالية تحمي مصالح الأطراف كافة، يبدو أن القيادة السورية الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، تُوازن بين البراغماتية والانفتاح، وبين الحفاظ على المبادئ الوطنية والسيادية.