تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.
للمزيد من المعلومات
مهنّد الحاج علي هو نائب المديرة لشؤون الأبحاث في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، تركّز اهتماماته البحثية على الديناميّات الجيوسياسية المتغيّرة والجماعات الإسلامية عقِب الانتفاضات العربية. صدرت له في الآونة الأخيرة ورقة بحثية عن كارنيغي بعنوان Double Dealers: Lebanon and the Risks of Captagon Trafficking (التجّار المزدوجون: لبنان ومخاطر الإتجار بالكبتاغون)، وأجرت “ديوان” مقابلة معه في أواخر آذار/مارس لمناقشة موضوع الدراسة وطبيعة إنتاج المخدّرات في لبنان، وتحديدًا حبوب الكبتاغون التي تتكوّن من مادّتَي الأمفيتامين والثيوفيلين.
مايكل يونغ: نشرتَ مؤخّرًا ورقةً بحثية عن مخاطر الإتجار بالكبتاغون على لبنان. ما الحجّة الرئيسة التي تتناولها، وما تداعيات هذا التهريب؟
مهنّد الحاج علي: الفكرة الأساسية التي أردتُ إيصالها هي أن تحدّيات تهريب الكبتاغون لا تقتصر على تجارة المخدّرات بحدّ ذاتها أو مساعي إنفاذ القانون، بل تهدّد هذه الآفة أيضًا النظام السياسي اللبناني وقدرته على التعافي خلال المرحلة الانتقالية الراهنة. ويُعزى ذلك إلى عاملَين رئيسَين. أولًا، أفضت شبكة الكبتاغون إلى تركُّز الثروة في أيدي مجموعة صغيرة من أباطرة المخدّرات، الأمر الذي عزّز نفوذهم بشكلٍ كبير. ثانيًا، أدّت الأزمات المالية والاقتصادية المتواصلة في لبنان إلى إضعاف مؤسسات الدولة بشدّة. فبعد أن خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 98 في المئة من قيمتها خلال السنوات الأربع الماضية، تراجعت قدرة الدولة وقوى الأمن على مكافحة آفة المخدّرات بشكل كبير. واليوم، يشهد لبنان وسورية نشأة نظامَين جديدَين على أنقاض القديمَين، بعد التغييرات التي عصفت بالبلدَين خلال العام الماضي. مع ذلك، يُرجَّح أن تخرج الشبكات غير المشروعة من هذه المرحلة الانتقالية سالمةً معافاة، بل قد تؤدّي أيضًا دورًا محوريًا في رسم معالم المشهد الجديد.
يونغ: تُميِّز في الورقة البحثية بين مهرّبي الكبتاغون الجدد، والمهرّبين التقليديين المرتبطين بالعشائر، الذين ينتجون بشكلٍ أساسي الحشيش أو القنّب، إضافةً إلى الأفيون. ما أبرز الاختلافات بين الجانبَين؟
الحاج علي: تتمتّع شبكات الحشيش العشائرية ببنيةٍ لامركزيةٍ أكثر، تشمل العمل مع مزارعين وتجّار وشبكات تهريبٍ مستقلة عابرة للحدود الوطنية. ونتيجةً لذلك، تتوزّع الأرباح بين جهاتٍ مختلفة، ما يحدّ من تركُّز الثروة في أيدي حفنةٍ قليلة، وبالتالي من القدرة على اكتساب هذه الجهات نفوذًا سياسيًا ملحوظًا. صحيحٌ أن بعض المهرّبين العشائريين سبق أن انتُخبوا نوّابًا في البرلمان اللبناني، أو يمكن أن يُنتخبوا في المستقبل، إلّا أن هدفهم من الانخراط السياسي بالدرجة الأولى هو تعزيز مكانتهم الاجتماعية وتمثيل مجتمعهم المحلّي، بدلًا من توسيع تجارتهم غير المشروعة.
أما تجّار الكبتاغون، فهم منخرطون بشدّة في جميع مراحل عملهم، بدءًا من الإنتاج ومرورًا بالتهريب ووصولًا إلى التوزيع، ما يتيح لهم جمع ثرواتٍ طائلة. ويمنحهم هذا النفوذ المالي ورقة ضغط سياسية تمكّنهم من التأثير على مؤسسات الدولة لخدمة مصالحهم. إذًا، على خلاف المهرّبين العشائريين الذين غالبًا ما تحدّ انتماءاتهم القبلية والتزاماتهم المحلية من قدرتهم على بسط نفوذٍ سياسي أوسع، تتغلغل شبكات الكبتاغون بشكلٍ استراتيجي في هياكل الدولة السياسية والأمنية لتيسير عملياتها غير المشروعة وحمايتها.
كذلك، ينشط تجّار الكبتاغون على نطاق دولي أكبر بكثير. ويتحدّر كثرٌ من المهرّبين البارزين من المنطقة الحدودية اللبنانية السورية، حيث يستغلّون روابطهم الحدودية القوية، ويحملون في بعض الحالات الجنسيّتَين اللبنانية والسورية. تمنحهم علاقاتهم المباشرة بأسواق الطلب الخارجية انتشارًا عالميًا تفتقر إليه شبكات الحشيش العشائرية. وفيما بقي تهريب الحشيش في لبنان تحدّيًا محليًا، تنشط تجارة الكبتاغون على نطاق واسع جدًّا، ما يطرح تهديدًا كبيرًا على مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية ومركزها السياسي بحدّ ذاته.
يونغ: ما مدى تورّط الأحزاب السياسية اللبنانية، أو سياسيين محدّدين، في الإتجار بالمخدّرات؟ وماذا عن مؤسسات الدولة؟
الحاج علي: يشمل المستوى الأول من الانخراط قيام سياسيين أو أحزاب بتوفير الحماية لشبكات المخدّرات المحلية، مقابل الحصول على ولائها ودعمها. شكّلت هذه الديناميّات تاريخيًا ظاهرةً عابرة للطوائف في منطقة البقاع. وعلى خلاف المهرّبين التقليديين الموالين لفصائل سياسية محدّدة، لا يرتبط تجّار الكبتاغون بحزبٍ سياسي واحد، بل نسجوا شبكةً واسعة من العلاقات مع شخصيات من مختلف ألوان الطيف السياسي، ما منحهم قدرًا أكبر من المرونة وحريّة التنقّل.
أما المستوى الثاني من الانخراط، فيتمثّل في تيسير عمليات التهريب على نحوٍ مباشر، كما فعل حزب الله في سورية. فانطلاقًا من تحالفه مع النظام السوري السابق، حافظ الحزب على انتشارٍ عسكري في البلاد، وذكرت تحقيقاتٌ عدّة مشاركته في تسهيل تجارة الكبتاغون. ونظرًا إلى دور الفرقة الرابعة المدرّعة في الجيش السوري بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع، في تصنيع هذا المخدّر على نطاقٍ واسع، وتحالفها الوثيق مع حزب الله، من الصعب تصديق أن الحزب لم ينخرط في تجارة المخدّرات المزدهرة في سورية. وينطبق هذا المنطق أيضًا على أنشطة حزب الله في الجانب اللبناني من الحدود، حيث يتمتّع بنفوذ قوي وتجمعه علاقات مع شبكات المخدّرات، وبالتالي من المُستبعَد جدًّا ألّا يكون ضالعًا في عمليات التهريب.
يونغ: يشهد لبنان واقعًا سياسيًا جديدًا منذ الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وأعني تحديدًا هزيمة حزب الله وسقوط نظام الأسد في سورية. كيف أثّرت هذه التطوّرات على تهريب الكبتاغون؟
الحاج علي: اضطلع النظام السوري بدورٍ مركزي في إنتاج الكبتاغون، لذا شكّل سقوطه في كانون الأول/ديسمبر ضربةً قويةً لتجارة المخدّرات. ويعتمد تعافي هذا القطاع، وإن جزئيًا، على عاملَين رئيسَين. يتمثّل الأول في القدرة الإنتاجية، ولا سيما أن الطلب على الكبتاغون لا يزال مرتفعًا في دول الخليج وغيرها. على الرغم من الانتكاسة الراهنة، يتواصل إنتاج الكبتاغون في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة المعارضة، ومن ضمنها الأجزاء الشمالية الواقعة تحت نفوذ ما يُعرف بالجيش الوطني السوري، والجنوب السوري أيضًا. لذا يبدو من الممكن تلبية الطلب على الكبتاغون، وإن جزئيًا. والوضع مشابهٌ في البقاع على الجانب اللبناني، لكن مستويات الإنتاج الراهنة لا تزال متدنّية نسبيًا.
أما العامل الثاني فيكمن في قدرة القيادتَين الجديدتَين في لبنان وسورية على توفير بدائل اقتصادية معقولة لإنتاج المخدّرات. لكن نظرًا إلى العقوبات التي لا تزال مفروضة على دمشق والتحدّيات الأمنية التي يواجهها البلَدان، من المُستبعَد تحقيق ذلك في المدى القصير. ويتعيّن على الجهات الإقليمية والدولية المعنيّة بكبح تهريب المخدّرات أخذَ هذه المعطيات في الحسبان والتحرّك بسرعة، سواء من خلال إعادة النظر في العقوبات أو دعم جهود التعافي الاقتصادي. فانهيار مؤسسات الدولة يُعدّ من الأسباب الرئيسة لازدهار تجارة الكبتاغون، لذا تشتدّ الحاجة اليوم إلى تطبيق حلولٍ اقتصادية مستدامة.
يونغ: ما الطريقة الفضلى برأيك لثني المهرّبين اللبنانيين المرتبطين بالعشائر عن زراعة الحشيش وبيعه؟ وهل هذا طرحٌ واقعي؟
الحاج علي: على الدولة اتّخاذ الخطوات اللازمة من أجل تشريع زراعة الحشيش لأغراض طبيّة محدّدة، وبالتالي الفصل بين زراعته والإتجار به. ومن شأن ذلك أن يحدّ من الجرائم المرتبطة بالمخدّرات، وإضعاف شبكات التهريب، وضمان استفادة المزارعين بصورة مباشرة من هذه الزراعة. هذا هو المبدأ الأساسي الذي استند إليه قانونٌ أُقرّ في لبنان في العام 2020، ولكنه بقي حبرًا على ورق. إذًا، على الحكومة تطبيق هذا القانون، مُستَفيدةً من تجربة المغرب الذي أحزر تقدّمًا ملحوظًا في هذا المجال وحقّق عائداتٍ كبيرة. ونظرًا إلى الفشل الذي مُنيت به حتى الآن محاولات استبدال زراعة الحشيش وغيره من النباتات المخدّرة بمحاصيل أخرى، يشكّل تشريع الحشيش فرصةً مهمّة لتنظيم هذا القطاع بشكل فعّال.
مايكل يونغ
محرّر مدوّنة ‘ديوان’, مدير تحرير في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
لبنان
سورية
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.