لا تبدو العلاقة بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، سلطة الأمر الواقع في شمال شرق البلاد، في أفضل حالاتها. فالتقدم في تنفيذ مضامين الاتفاق الذي وقّعته “قسد” ودمشق في مارس/آذار الماضي لا يزال دون مستوى توقعات وآمال السوريين. ويبدو الطرفان اليوم أمام خيارين ربما لا ثالث لهما، الأول: المضي قدماً في تطبيق الاتفاق الذي نص على دمج “قسد” في المنظومة العسكرية للبلاد، ما يعني فرض الدولة سيطرتها على كامل الشمال الشرقي من البلاد، والثاني الصدام العسكري الذي يحاول الطرفان تجنّبه كيلا تنزلق المنطقة إلى حالة اقتتال ربما تخرج عن نطاق السيطرة.
وشرعت “قسد” قبل أيام في حملة اعتقالات طاولت ناشطين في محافظة الرقة بحجة “التواصل مع الحكومة السورية”، بالتزامن مع ارتفاع وتيرة حفر الأنفاق في مدينة الرقة، ما دفع ناشطين إلى إطلاق حملة عبر وسائل التواصل لإيقاف عمليات الحفر كونها تشكل خطراً على مباني هذه المدينة التي دمر التحالف الدولي أغلبها قبل سنوات. وتشي هذه الأنفاق بأن “قسد” ليست بصدد تسليم المنطقة للجيش السوري كما نصّ الاتفاق الذي وقّعه الرئيس أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي في مارس الماضي، وهو ما يبرر الاستعداد العسكري لمواجهة محتملة مع الجيش السوري.
جان علي: سيناريو الصدام العسكري يعني نسف كل الاتفاقيات السابقة بينهما
ويضغط الشارع في الشمال الشرقي من البلاد على الإدارة السورية الجديدة من أجل حسم مصير مناطقهم، بيد أن هذه الإدارة تحاول -كما يبدو- تغليب الخيار السياسي على العسكري لتجنيب البلاد دورات عنف جديدة. ويبدو أن الجانب التركي يدفع باتجاه تنفيذ هذا الاتفاق وحسم مصير الشمال الشرقي من سورية، فأنقرة تعتبر وجود “قسد” التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي خطراً على أمنها القومي.
وفي هذا الصدد، ذكرت وكالة الأناضول أن رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن أجرى، الاثنين الماضي، مباحثات مع الشرع بحضور وزير الخارجية أسعد الشيباني ورئيس الاستخبارات حسين السلامة. وبحسب الوكالة، “ناقش اللقاء مسألة دمج عناصر تنظيم ‘بي كي كي (حزب العمال الكردستاني) / واي بي جي (الوحدات الكردية)’ على غرار المجموعات الأخرى في سورية بعد إلقاء السلاح، وأمن الحدود والمعابر الجمركية، وتسليم السجون والمعسكرات التي يُحتجز فيها عناصر داعش إلى الحكومة السورية”.
دمشق و”قسد”… أكثر من خطوة إلى الوراء
ويرفض الجانب التركي أي شكل من أشكال السيطرة لقوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي من سورية. وكانت تركيا شنت عمليات عسكرية واسعة النطاق على “قسد”، برية وجوية، طيلة السنوات الماضية. وتزايدت المخاوف لدى سكان الشمال الشرقي من سورية من لجوء عدد من مسلحي حزب العمال الكردستاني إلى مناطقهم بعد حل هذا الحزب في تركيا وشروعه في تسليم سلاحه وإنهاء “الكفاح المسلّح” هناك، ما من شأنه دفع المشهد إلى مزيد من التعقيد.
غموض يلف مصير العلاقات بين “قسد” ودمشق
ورأى جان علي، وهو كاتب مقيم في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، في حديث مع “العربي الجديد”، أن غموضاً يلف مصير العلاقات بين “قسد” ودمشق، معرباً عن اعتقاده أن هناك سيناريوهات عدة ربما تحكم العلاقة بين الطرفين منها “الصدام العسكري، ما يعني نسف كل الاتفاقيات السابقة بينهما”. وقال: “هناك سيناريو السير بالاتفاقيات وحلحلة عقد الملفات والقضايا العالقة حتى اللحظة، من خلال المضي بأعمال اللجان المشكلة المتخصصة بين الفريقين وحل الإشكاليات كافة نهاية السنة الجارية كما نص الاتفاق”. كما أن هناك سيناريو ثالثاً وهو “وقوع مواجهات عسكرية محدودة تمكن السيطرة عليها”. وبرأيه، فإن الصدام العسكري، في حال وقوعه، “ربما يجد جهات إقليمية ودولية تؤججه مثل إيران، وربما روسيا إلى حد ما وبعض القوى الفاعلة عسكرياً في العراق”، مضيفاً: المليشيات الموالية لإيران لها نفوذ في العراق وتنتشر على الحدود السورية العراقية.
من جهته، قال الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي آلدار خليل، على صفحته الرسمية في “فيسبوك”، إن الحوار “مع حكومة دمشق مستمر في ما يخص ملف عودة مهجرّي عفرين ورأس العين وتل أبيض”، مشيراً إلى أن “العمل مستمر بخصوص تشكيل وفد يمثل الرؤية الكردية”، مضيفاً: في الأيام القليلة المقبلة، ستبدأ هذه اللجنة المشكلة عملها للتحاور مع دمشق.
تحذير من “حرب أهلية”
آلدار خليل: “الإدارة الذاتية” منفتحة على الحوار لمعالجة القضايا مع حكومة الشرع
وفي تصريحات أخرى، قال خليل، لفضائية “كردسات نيوز”، إن “إصرار الحكومة السورية على المركزية سيقسم سورية ويقود إلى الحرب الأهلية”. وأضاف أن جدول أعمال وفد “الإدارة الذاتية” للتفاوض مع دمشق يتضمن “تعديل دستور سورية والتوافق عليه وعلى نظام الحكم في البلاد والجيش والاعتراف بالقضية الكردية”. وقال: “لا نقبل بسياسات النظام الحالي تجاه العلويين والدروز، والوفد سيناقش حقوق المكونات السورية من دون تهميش”.
وأضاف أن ما وصفه بـ”التحريض الإعلامي من قبل السلطات السورية ضد قسد والإدارة الذاتية غير مقبول ومخالف للاتفاقيات”، مشيراً إلى انفتاح “الإدارة الذاتية” على الحوار لمعالجة القضايا السياسية والاقتصادية والخدمية والعسكرية مع حكومة الشرع. وأوضح أن “قوات قسد ووحدات الحماية ليست امتداداً لحزب العمال الكردستاني، وأن مستقبلها يناقش مع دمشق، ولا نقبل بإملاءات تركيا بصدد نزع سلاحنا”، مضيفاً أن التحالف الدولي والإدارة الأميركية “لم تخطر الإدارة الذاتية وقسد حيال تسليم ملف تنظيم داعش للحكومة السورية”، معتبراً أن “إدارة ملف داعش من دون قسد غير ممكن، والغرب يعلم العواقب، نظراً إلى وجود معادلة عدم ثقة بقدرات دمشق ووجود فصائل ضمن الحكومة السورية كانت بالأمس داعش”.
وفي السياق نفسه، قال محمود حبيب، المتحدث الرسمي باسم فصيل “قوات الشمال” المنضوي في “قسد”، لـ”العربي الجديد”: “نذكّر دائماً بالطرح الوطني الذي يتبنّى الحوار على أرضية متساوية من دون إقصاء، ونأمل أن يكون بناء الوطن والمواطن أولوية لدى الجميع حتى نتجاوز هذه المرحلة الحرجة”.
وعُقدت عدة جولات تفاوضية بين “قسد” والحكومة السورية لتنفيذ اتفاق مارس الماضي، حققت بعض التقدم في ملف حيي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، وملف سد تشرين على نهر الفرات شمال شرقي محافظة حلب. ولكن لم تشهد بقية الملفات أي تقدّم معلن، حيث لم تتسلم الحكومة حقول وآبار نفط وغاز في مناطق سيطرة “قسد” رغم بدء انسحاب قوات التحالف من أهم حقلين في ريف دير الزور الشرقي وهما العمر وكونيكو. كما لم يشهد ملف السجون التي تضم آلاف المسلحين المنتمين لتنظيم داعش أي حلحلة، رغم أن الإدارة الأميركية طلبت رسمياً من دمشق تولي هذا الملف. ولم تُحل عقدة ملف التعليم و”الإدارة الذاتية” الكردية، ما يدفع للاعتقاد أن تطبيق اتفاق مارس سيواجه الكثير من المعوّقات، لا سيما أن القوى السياسية الكردية توافقت على وثيقة تضم مجموعة مطالب تُعد بنظر دمشق غير واقعية وغير قابلة للتطبيق كونها تشرّع الباب أمام تشظّي البلاد على أسس عرقية وطائفية.