كأنه وزير خارجية المجر او السنغال او حتى فنزويلا. حلّ عباس عراقجي ضيفاً ثقيلاً على بيروت، آتيا من دولة بعيدة، كانت تربطها بفريق لبناني وازن علاقات وثيقة جدا إنتظمت لنحو 45 سنة خارج القنوات الدبلوماسية الرسمية، وأتاحت، في يوم من الأيام، لبعض المسؤولين الإيرانيين الزعم بأنهم يسيطرون على العاصمة اللبنانية، (وثلاث عواصم عربية أخرى)، التي باتت معرضاً لتوقيع كتب إيرانية عن عبقرية المفاوضات، بعدما كانت مصنعاً لانتاج الصواريخ الدقيقة والمسيّرات المتطورة والذخائر على أنواعها.
لم يأت وزير الخارجية الإيرانية الى بيروت معتذراً. جاء من القاهرة بالذات، بمهمة “ثقافية” داخلية، أكثر من كونها مهمة دبلوماسية تعنى بالسياسة الخارجية لإيران، ومفاوضاته المعقدة مع أميركا. حمل توقيعه على كتابه المعنون: “قوة التفاوض..مبادىء وقواعد”، غير الموجه الى الجمهور اللبناني، ولا المصري طبعا، بل الى سلفه وغريمه السابق محمد جواد ظريف الذي سبق أن مَهَر بقلمه الاتفاق النووي الإيراني مع أميركا والغرب في العام 2015، الذي ألغاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومزقه في سلسلة من الحملات العسكرية المتواصلة على حلفاء إيران العرب.
قبل ان يصل الى بيروت، أبلغ عراقجي محاوريه المصريين، وبينهم ستة من وزراء الخارجية السابقين، بما آلت اليه المفاوضات الحالية مع أميركا في روما ومسقط، وتلقى تشجيعاً على المضي قدماً في استخدام “قوة الدبلوماسية”، يشبه التشجيع الذي تلقاه من السعودية وبقية دول الخليج العربية، على عدم اضاعة تلك الفرصة، بعدما سبق لإيران أن إختبرت، من دون جدوى، قوة الصواريخ والمسيّرات والرغبات الانتحارية لدى الحلفاء العرب..وكان رده على التشجيع الرسمي العربي، هو التعبير عن الخشية من أن تنسحب واشنطن من المفاوضات في اللحظة الأخيرة، أو أن تمزق الاتفاق إثر التوقيع عليه، أو أن يمتنع الكونغرس الأميركي عن التوقيع عليه..
لم يكن عراقجي في القاهرة بحاجة الى الكثير من الجهد لكي يقنع محاوريه المصريين بجدوى ذلك الخيار الدبلوماسي. كان فقط يسأل عما إذا كان ترامب جدياً هذه المرة في ملاقاة اليد الإيرانية الممدودة للمصافحة والمصالحة، بعد صولات وجولات عسكرية خطرة، حرمت إيران من معظم ودائعها العربية، وانتهكت الامن الداخلي الإيراني بشكل لم يسبق له مثيل، ولم يحسب له حساب، في السياق الإقليمي ولا في السياق النووي، العالق عند نسبة التخصيب المسموح به، وما اذا كان يجب ان تكون أقل من نسبة التخصيب المحددة في اتفاق العام 2015.
لكن مهمته في بيروت كانت أشبه بسياحة دبلوماسية، تتفادى مقاربة الكثير من الملفات المتفجرة في العلاقات الثنائية بين الدولتين. طرافة قوله أن بلاده حريصة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، التي كانت ولا تزال من مسؤوليات المرشد علي خامنئي وقيادة الحرس الثوري حصرا، لا تُغني ولا تسمن عن جوع لبناني للرد على أسئلة جوهرية حول مستقبل العلاقة بين الدولة الإيرانية، وبين الطائفة الشيعية اللبنانية، وأهم عناصرها الراهنة أن تتحمل طهران جزءاً كبيراً من المسؤولية عن الحرب الإسرائيلية وخسائرها وأضرارها، وإمكان دفع الضريبة أو الجزية الى الدولة اللبنانية دون سواها.. حتى ولو صار “حزب الله”، فرقة إيرانية تخضع للإدارة الإيرانية المباشرة، سياسياً وعسكرياً ومالياً..
عدا ذلك، لا شأن للبنان باختبار قوة الدبلوماسية الايرانية التي يكتب عنها عراقجي، قبل ان يتمرس بها مثل سلفه ظريف، والتي لم يطلع المسؤولين اللبنانيين على فحواها، ومسارها التفاوضي الحالي، الذي كان اللجوء اليه بمثابة صدمة قاتلة لحلفاء ايران اللبنانيين، وفرصة سانحة لخصومها اللبنانيين، لكي يشهروا أسلحتهم في وجه بعضهم البعض، ويتقاتلوا على نزع سلاح حزب الله، الذي لم يعد له أثر يذكر لا على الأراضي اللبنانية، ولا ربما في مخازن الدبلوماسية الإيرانية.
بيروت في 4 / 6 / 2025