البن من أكثر السلع تداولا بعد النفط والذهب
شهدت بورصة أسعار البن العالمية ارتفاعات متسارعة وغير مسبوقة في الآونة الأخيرة، مما دفع الملايين إلى المضاربة بهدف تحقيق أرباح طائلة. جاء ذلك في ظل زيادة الطلب وقلة المعروض نتيجة انخفاض الإنتاج بسبب تأثيرات التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية والتصحر، وهذا ما تسبب بمفاقمة الأزمات الزراعية التي تعاني منها غالبية الدول المنتجة للبن.
تضاف إلى ذلك، العوامل الجيوسياسية والتحديات الاقتصادية والتضخم، بما في ذلك الحروب والنزاعات القائمة. ومن المرجح أن يؤدي تغيّر المناخ إلى تفاقم أسعار البن في البورصات العالمية خلال الفترة المقبلة، ولا سيما في ظل الحروب التي عطلت حركة الشحن وضاعفت تكلفته، لتضاف هذه التكاليف إلى السعر النهائي الذي يتحمله المستهلك. ومع تغيّر نمط المزاج الاستهلاكي، باتت القهوة المشروب الأول المفضل لدى الجميع.
وأفادت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) بأن أسعار تصدير البن قد ترتفع أكثر خلال السنة الجارية إذا شهدت مناطق زراعة البن الرئيسة انخفاضا كبيرا في العرض. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت القرارات المتعلقة بالرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على بعض الدول في رفع تكاليف الشحن دوليا بدرجة كبيرة، وهو ما ساهم في مضاعفة أسعار البن بنسبة وصلت إلى 100 في المئة منذ العام 2024.
وعلى الرغم من هذه التطورات، فإن الطلب يتزايد على هذه السلعة بشكل متسارع، إذ تُعَد القهوة من المنتجات التي تحظى بأوسع نطاق من الاستهلاك حول العالم، كما تشهد رواجا كبيرا في العالم العربي، ناهيك بأن عشاق القهوة يعتبرونها خيارهم الأفضل مهما ارتفعت أسعارها.
“الذهب الأخضر” من أكثر السلع تداولا بعد النفط والذهب
يُعد البن من أكثر السلع تداولا على المستوى التجاري، مما انعكس على صناعته وتصديره وتجارته عالميا. كذلك دخلت “أسهم” البن وأسعارها دائرة المنافسة ليصبح البن من أكثر السلع تصديرا بعد النفط والذهب، ويُعرف البن بـ”الذهب الأخضر”، وهذا دفع الى ارتفاع أسعاره بشكل غير مسبوق منذ 50 سنة، نتيجة نمو استهلاكه وتزايد الطلب عليه.
تُعد البرازيل، وفيتنام، وكولومبيا، وإندونيسيا، وإثيوبيا، وأوغندا، وبيرو، والهند، وغواتيمالا، من أكبر البلدان إنتاجا للبن. في المقابل، تراجع إنتاج البن اليمني إلى حد أصبح فيه شبه غائب عن السوق العالمية
وتتنوع أسعاره بحسب جودة المذاق، والإضافات المستخدمة، والبلدان المنتجة ذات الشهرة العالمية في زراعته. كما تُعَد تجارته من أكثر السلع الزراعية تداولا على مستوى العالم، وبحسب “الفاو”، تشكّل مصدر دخل لنحو 25 مليون أسرة زراعية حول العالم.
ضعف المحاصيل وتراجع الإمدادات
وتتنوع أسعار البن طبقاً لجودة المذاق والإضافات المستخدمة والبلدان المنتجة ذات الشهرة العالمية في زراعته. ومع الارتفاعات المتتالية، تستمر شركات القهوة في تمرير التكاليف المرتفعة إلى المستهلكين، في حين يسعى المستوردون إلى التحوط من تذبذب الأسعار في ظل الأزمات العالمية المتلاحقة التي أثّرت في المعروض والإنتاج، إذ أدّى ضعف المحاصيل لدى المنتجين الكبار مثل البرازيل وفيتنام واليمن إلى تراجع إمدادات القهوة، في وقت تتوقع فيه وزارة الزراعة الأميركية انخفاض المخزونات العالمية من البن خلال عام 2025.
رويترزرويترز
التوترات السياسية والاقتصادية تلقي بظلالها على أسواق البن العالمية
تُعد البرازيل، وفيتنام، وكولومبيا، وإندونيسيا، وإثيوبيا، وأوغندا، وبيرو، والهند، وغواتيمالا من أكبر البلدان إنتاجا للبن. وفي المقابل، تراجع إنتاج البن اليمني إلى حد أصبح فيه شبه غائب عن السوق العالمية، نتيجة لانحسار زراعته والأزمات المتواصلة التي يعانيها منذ أكثر من 10 سنوات. وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي تواجه اليمن بسبب الحرب المستمرة منذ عقد من الزمن، لا تزال صادرات البن تشكل موردا اقتصاديا مهما ومصدرا للنقد الأجنبي.
ووفق البيانات، لا تتجاوز كمية البن اليمني المصدَّرة 20 ألف طن سنويا، بسبب العوامل الجيوسياسية والكوارث الطبيعية والتقلبات المناخية التي أثرت في الإنتاج.
أشارت “الفاو” في تقرير حديث إلى أن أسعار البن قد ترتفع أكثر في عام 2025 إذا استمر انخفاض المعروض من مناطق زراعته الرئيسة
وعلى الرغم من ذلك، يبقى البن اليمني يحظى بشهرة واسعة عالميا وأسعاره مرتفعة مقارنة بغيره. في حين سجلت العقود الآجلة للقهوة قفزة تجاوزت 30 في المئة منذ بداية العام الحالي.
التغيرات المناخية تؤثر في الإنتاج وترفع الأسعار
أشارت “الفاو” في تقرير حديث إلى أن أسعار البن قد ترتفع أكثر في عام 2025 إذا استمر انخفاض المعروض من مناطق زراعته الرئيسة. يعود انخفاض الإنتاج وارتفاع الاسعار في الآونة الأخيرة إلى عوامل رئيسة عدة:
– فيتنام: تأثرت صادرات البن من هذه الدولة سلبا بعد أن شهد جفافا أدى إلى تراجع الإنتاج بنسبة 20 في المئة خلال موسم 2023-2024، كما تقلصت الصادرات بنسبة 10 في المئة للسنة الثانية على التوالي.
– إندونيسيا: أدى سوء الأحوال الجوية خلال موسم 2023-2024، إلى انخفاض إنتاج البن بنسبة 16,5 في المئة وتراجع الصادرات بنسبة 23 في المئة مقارنة بالموسم السابق.
أ.ف.ب.أ.ف.ب.
حبوب البن في مزارع فنزويلا، في العاصمة كاراكاس 3 مايو 2025
– البرازيل: تسببت الظروف المناخية غير المواتية في انخفاض إنتاج البن في هذا البلد بنسبة 1.6 في المئة خلال موسم 2023-2024 مقارنة بالموسم السابق، مع تراجع الصادرات بسبب انخفاض المعروض.
في عام 2024، تصدرت البرازيل قائمة أكبر الدول المنتجة للبن في العالم بإنتاج بلغ 3.984 مليون طن، ويمثل نحو 38 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي البالغ نحو 10.5 مليون طن، وفق بيانات وزارة الزراعة الأميركية، إلا أن البرازيل تعاني من نقص في المياه، وجفاف في الأراضي، إلى جانب الحرائق التي لحقت بالغابات، مما أثر سلبا في حجم الصادرات وساهم في ارتفاع أسعار البن عالميا.
مصر تعتمد على الاستيراد
تستورد مصر 100 في المئة من احتياجاتها من البن، بسبب عدم ملاءمة المناخ والتربة المصرية لزراعة أشجار البن، إذ تتطلب هذه الأشجار مناخا استوائيا أو شبه استوائي وتربة حمضية. وأظهرت البيانات الأخيرة ارتفاعا قياسيا في واردات مصر من منتجات القهوة، التي وصلت إلى نحو 80 ألف طن خلال عام 2024.
تولي السعودية اهتماما بالغا بقطاع زراعة البن، نظرا لأهميته الاقتصادية والثقافية والبيئية والحد من الاعتماد على الاستيراد
عبد الرحمن أبو صدام، نقيب الفلاحين في مصر
وبحسب خبراء الزراعة والاقتصاد الذين استطلعت “المجلة” آراءهم، فإن ارتفاع سعر البن يعود إلى تراجع الإنتاج العالمي من حبوبه، نتيجة تعرض البرازيل وفيتنام للجفاف والتغيرات المناخية القاسية خلال مراحل نمو وإثمار أشجار البن، مما تسبب في تساقط الأوراق وعدم نمو الأزهار، وأثار مخاوف من استمرار انخفاض الإنتاج العالمي، خاصة أن هاتين الدولتين مسؤولتان عن أكثر من 55 في المئة من إنتاج البن على مستوى العالم.
الاضطرابات الجيوسياسية ترفع الأسعار
تُضاف إلى تلك العوامل، ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين على البضائع المستوردة، نتيجة التوترات الجيوسياسية في منطقة البحر الأحمر والعالم، وحرب التعريفات، فضلا عن الزيادة الملحوظة في الطلب على القهوة عالمياً. وتشير التقديرات إلى أن الإقبال على تناول القهوة خلال فصل الشتاء يزيد بنسبة تصل إلى 25 في المئة مقارنةً بفصل الصيف. فبعد أن كان الشاي هو المشروب الأكثر رواجاً بين الشباب في مصر، باتت القهوة اليوم مشروبهم المفضل، ما أدى إلى ارتفاع واردات مصر من القهوة في الآونة الأخيرة.
وفي هذا السياق، أشار نقيب الفلاحين في مصر، عبد الرحمن أبو صدام، في حديث إلى “المجلة”، “أن التغيرات المناخية التي تؤدي حالياً إلى انخفاض الإنتاج في مناطق زراعة البن التقليدية، مثل البرازيل، وفيتنام، وإندونيسيا، وإثيوبيا، وكولومبيا، قد تمهد الطريق لنجاح زراعته في مصر، وكذلك في أماكن جديدة حول العالم لم تكن مناسبة في السابق. كما أن ارتفاع أسعار تجارة القهوة يدفع إلى مزيد من الاهتمام بأشجار البن والتوسع في زراعتها، ويُشجع الباحثين والعلماء على استنباط أصناف جديدة من أشجار البن ذات إنتاجية عالية وقادرة على مقاومة التغيرات المناخية القاسية. ومن المتوقع أيضاً أن يتجه المستثمرون الزراعيون إلى الاستثمار في تطوير وتحسين زراعة البن، سواء لجهة أساليب الزراعة أو لجهة مواجهة التحديات التي تعترضها، ولاسيما أن القهوة أصبحت مشروباً أساسياً وعادة يومية يصعب الاستغناء عنها في أنحاء العالم كله”.
في المقابل، اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور محمد علي إبراهيم، في حديث إلى “المجلة”، أن موجة الجفاف التي تجتاح البرازيل وتراجع المعروض العالمي من البن جاءا في وقت يشهد زيادة كبيرة في الطلب، وقال: “إن مصر استوردت 80 ألف طن من البن عام 2024، في مقابل ستة آلاف طن فقط عام 2006، أي أن الاستهلاك المحلي تضاعف خلال هذه الفترة بأكثر من 13 مرة. وتحتل مصر المرتبة الرابعة عربياً في قائمة الدول الأكثر استهلاكاً للقهوة، بعد كل من الجزائر والمملكة العربية السعودية ولبنان، بحسب إحصاءات منظمة البن الدولية.
وتستورد مصر البن من فيتنام والبرازيل والهند وإندونيسيا وإثيوبيا، إلا أن 70 في المئة من وارداتها تأتي من إندونيسيا، وهي النسبة الأكبر.
لم تشهد أسواق البن مثل هذه الارتفاعات منذ أكثر من 50 سنة، إذ ارتفعت الأسعار من عام 2024 إلى 2025 بنسبة 100 في المئة
حسن فوزي، رئيس شعبة البن في اتحاد الغرف التجارية المصرية
ويواجه المستهلكون اليوم تحديات مستمرة تؤثر في مستوى معيشتهم ومزاجهم، الأمر الذي قد ينعكس سلبا على حجم الاستهلاك اليومي في المقاهي والنوادي الرياضية ومحال القهوة الشهيرة.
استيراد مصر من البن: 520 مليون دولار
وفي هذا السياق، أوضح رئيس شعبة البن في اتحاد الغرف التجارية، حسن فوزي، في حديثه إلى “المجلة”، أن مصر تستورد البن الخام وتقوم بتحميصه وطحنه وتعبئته محليا، على عكس بعض الدول التي تستورده معبأ. وقال: “تستورد مصر نحو 80 ألف طن سنويا، ويتراوح سعر الطن ما بين 5,500 دولار و7,500 دولار، فيما يبلغ متوسط السعر العالمي نحو 6,500 دولار للطن، مما يجعل قيمة واردات القهوة تتجاوز 520 مليون دولار، وفقا للأسعار العالمية التي تشهد ارتفاعا يوميا”.
وحول إمكان زراعة البن في مصر، أشار فوزي إلى أن هناك تجارب تجرى حاليا في بعض المزارع بمحافظة الإسماعيلية وصعيد مصر، لكن لا تأكيدات لنجاحها حتى الآن، نظرا إلى حاجة البن إلى مناخ استوائي ودرجات حرارة مرتفعة ورطوبة عالية. وأشار أيضا إلى إمكان نجاح زراعة البن في المملكة العربية السعودية، نظرا إلى تشابه مناخها مع مناخ بلاد الحبشة واليمن، وهما من البلدان المنتجة للبن.
من جهة أخرى، أشار فوزي إلى أن سوق البن لم تشهد مثل هذه الارتفاعات منذ أكثر من 50 سنة، إذ ارتفعت الأسعار من عام 2024 إلى 2025 بنسبة 100 في المئة. ويصل سعر طن البن اليمني في السوق المصرية إلى نحو 15 ألف دولار، فيما يُقدَّر سعر الكيلو المطحون في بعض المتاجر الكبرى بين 13 و20 دولارا.
انخفضت الزراعة في دول كانت تُعد مصدرا رئيسا للبن. لقد غيّرت الظروف المناخية غير المواتية والجفاف خريطة زراعة البن عالميا. وهذا يستدعي تبني استراتيجيات مستدامة لضمان استمرارية الإنتاج وتلبية احتياجات المستهلكين
وأضاف أن العقود الآجلة تؤدي دورا رئيسا في تحديد أسعار البن، ولاسيما مع ارتفاع أسعار المحروقات، التي تزيد تكلفة الشحن، مما ساهم في مضاعفة أسعار البن في مصر منذ عام 2024.
تشجيع زراعة البن في السعودية
في المملكة العربية السعودية، تشهد زراعة البن نموا ملحوظا ضمن خطط حكومية تهدف إلى تطوير المحاصيل ذات الميزة النسبية، من خلال استغلال الموارد المائية المتجددة لدعم المحاصيل الاقتصادية ذات العائد المرتفع.
أ.ف.ب.أ.ف.ب.
مقهى سايت غلاس الذي يقدم قهوة طازجة، في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا 7 أبريل 2025
يأتي ذلك فيما تولي المملكة اهتماما بالغا بقطاع زراعة البن، نظرا لأهميته الاقتصادية والثقافية والبيئية، في حين تسعى جاهدة لتطوير هذا القطاع وزيادة إنتاجه محليا والحد من الاعتماد على الاستيراد. وقد أطلقت المملكة مبادرات وطنية عدة لدعم زراعة البن وإنتاجه محليا. أما في اليمن، فقد أدت التوترات الجيوسياسية والنزاعات في البحر الأحمر، إلى تراجع قدرته على زراعة البن بالكميات المطلوبة، مما أدى إلى تراجع مساهمته في الإنتاج العالمي.
وتسعى العديد من الدول إلى البحث عن بدائل للبن اليمني والبرازيلي من خلال الاستيراد من دول أفريقية أخرى منتجة. لكن الخبراء يعتقدون أن إنتاج هذه الدول لا يرقى إلى مستوى التصدير الخارجي، نظرا إلى عدم خضوع البن فيها لعمليات التصفية والتنقية المطلوبة التي تضعه ضمن التصنيفات العالمية للاستخدام.
تغير المناخ يعيد تشكيل جغرافيا زراعة البن
يبقى السبب الرئيس، أن التغيرات المناخية وارتفاع درجات حرارة الأرض، تؤثر سلبا في زراعة البن، إلى درجة أن هناك مناطق لم تكن تُزرع فيها نبتة البن من قبل، ستبدأ الآن بزراعتها. في المقابل، انخفضت الزراعة في دول كانت تُعد مصدرا رئيسا للبن. لقد غيّرت الظروف المناخية غير المواتية والجفاف خريطة زراعة البن عالميا. وهذا يستدعي تبني استراتيجيات مستدامة لضمان استمرارية الإنتاج وتلبية احتياجات المستهلكين.
+ / –
font change
حفظ
شارك
مواضيع مشابهة