كان لافتاً التفسير الذي قدّمه إعلام “الحزب” والمحلّلين الذين يدورون في فلكه للزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي لبيروت، إذ رأوا أنّ السبب الرئيس لها لم يكن دبلوماسيّاً أو سياسيّاً، وإنّما من أجل المشاركة في حفل توقيع كتابه “قوّة التفاوض” بنسخته العربية. وما اللقاءات السياسية التي أجراها مع الرئاسات اللبنانية ووزارة الخارجية سوى تنويع على هذه الزيارة، أو لزوم ما لا يلزم في هذه المرحلة التي تشهد تطوّرات وتحوّلات متسارعة.
إذا ما كانت العلاقة بين “الحزب” والدولة الإيرانية لم تخرج عن سياق العلاقة الحذرة في الأغلب الأعمّ، فإنّ مردّها إلى طبيعة هذه العلاقة، التي كانت منذ بداياتها من خارج مؤسّسات الدولة وآليّاتها، بل كانت في الكثير من المواقف على حساب هذه الآليّات والأعراف الدبلوماسية. ولم تكن مقتصرة على الساحة اللبنانية فحسب، بل تخطّتها لتشمل كلّ الساحات التي تنشط فيها قوى متحالفة مع إيران.
عودة الدبلوماسية الإيرانية لتصدّر المشهد الذي يحكم علاقات إيران بمحيطها، وتحديداً العربي، لا تعني أنّ جدليّة “الميدان والدبلوماسي” التي تفجّرت في عهد وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف مع قائد قوّة القدس الجنرال قاسم سليماني، قد حُسمت لمصلحة الدبلوماسية، وأنّ سياسة ملء الفراغ، التي اعتمدتها السلطة الإيرانية في التعامل مع الأزمات الإقليمية، انتقلت إلى داخل المؤسّسات ومراكز القرار الداخلي. وما الحراك الذي يقوده وزير الخارجية عراقجي تجاه الإقليم سوى ترجمة لهذه السياسة، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 وتداعياتها وما أصاب “الميدان” من خسائر وضربات.
كان لافتاً التفسير الذي قدّمه إعلام “الحزب” والمحلّلين الذين يدورون في فلكه للزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي لبيروت
الصراع بين الدولة والثورة
تترجم عودة الحيوية للدبلوماسية الإيرانية رغبة عميقة داخل الدولة الإيرانية بالعودة إلى صدارة المشهد في العلاقات الإيرانية مع الخارج، بعد محاولات كثيرة ومتكرّرة لفصل حسابها عن حساب “الميدان” أو الرؤية والاستراتيجية اللتين كان يقودهما سليماني ومساعيه لبناء مفهوم “العمق الاستراتيجي” للنظام بالتناغم والتفاهم والتنسيق مع المرشد الأعلى الذي يتولّى حصراً رسم السياسات العامّة والاستراتيجية للنظام والدولة.
الصراع بين مفهوم الدولة ومقتضياته ومفهوم العمق الاستراتيجي ومتطلّباته، الذي شكّل ويشكّل تعبيراً عن صراع أساسي بين مفهوم الدولة ومفهوم الثورة، عطّل جهود الحكومات الإيرانية لبناء علاقاتها الخارجية بشكل سليم، في إطار العلاقة من دولة إلى دولة. إلّا أنّ التحوّل الذي حصل مع اغتيال سليماني مطلع عام 2020 في العراق، فرض على خليفته إسماعيل قاآني التخفيف من مظاهر هذا الصراع والتراجع خطوة إلى الظلّ، من دون التخلّي عن هذه الاستراتيجية. إلّا أنّ أحداث عام 2024 واغتيال الأمين العامّ لـ”الحزب” وسقوط النظام السوري وهروب بشّار الأسد، أجبرت “الميدان” على التراجع إقليميّاً، وفرضت على النظام أو منظومة السلطة إعادة ترتيب الأولويّات ورفع مستوى التركيز على الداخل لمواجهة التهديدات الجدّية التي تستهدف النظام واستقراره.
إيران
ما تحدّث عنه رئيس كتلة “الحزب” في البرلمان محمد رعد، من سرعة التعافي السريع والمفاجئ والصادم على جميع مستويات العمل الحزبي، ومنها العسكري، يؤكّد ما يدور في الكواليس من كلام عن دور محوري وأساسي لقوّة القدس في حرس الثورة وإشرافها على إعادة بناء القدرات العسكرية والأمنيّة لـ”الحزب” وترميم قدراته القتالية وتنظيمها.
في المقابل شمل التعافي، الذي تحدّث عنه رعد، أيضاً الجانب السياسي، وهو ما يعني أنّ هذه القيادة عملت وتعمل من أجل فهم كامل الأبعاد السياسية للمواقف التي اعتمدها “الحزب” على المستويَين الداخلي والخارجي وفي العلاقة مع إيران في زمن أمينه العامّ الأسبق نصرالله، الذي مارس دوراً شبيهاً بدور المرشد الأعلى في حصريّة رسم السياسات العامّة والاستراتيجية لـ”الحزب”.
يحمل تأكيد وزير الخارجية الإيراني من مقرّ الرئاسة الثانية اللبنانية أنّ إيران تعمل على تعزيز علاقاتها مع لبنان ضمن مفهوم العلاقة بين دولة ودولة
تعافي الحزب وواقعية إيران
يستند مسار التعافي الذي يعيشه “الحزب” بقوّة إلى مسار موازٍ تشهده أيضاً الساحة الإيرانية وآليّات تعاملها مع التحدّيات الداخلية والخارجية، ويجد تعبيراته الواضحة في تراجع حضور وفعّالية قوّة القدس ودورها في رسم سياسات النظام والدولة على كلا المستويَين. إلّا أنّ هذا التراجع لا يعني انتهاء هذا الدور، بل محاولة لاستخلاص العبر وإعادة ترميم أوراق القوّة والنفوذ والدور بناء على رؤية مختلفة تنسجم مع التحوّلات الجديدة التي شهدتها المنطقة والتعامل بواقعيّة مع الخسائر التي أصابت هذا المشروع.
من هنا يمكن القول إنّ إعادة تفعيل العمل الدبلوماسي ورسم مسارات جديدة لعلاقات إيران الخارجية، خاصة مع الإقليم، يصبّان في إطار واقعية النظام في التعامل مع المتغيّرات والسعي إلى تقليل حجم الخسائر وتداعياتها.
وعليه يحمل تأكيد وزير الخارجية الإيراني من مقرّ الرئاسة الثانية اللبنانية أنّ إيران تعمل على تعزيز علاقاتها مع لبنان ضمن مفهوم العلاقة بين دولة ودولة، رسالةً واضحةً برغبة الحكومة ومنظومة السلطة في إيران في نقل هذه العلاقة إلى حضن الدبلوماسية التي تساعد على إعادة التواصل على أسس جديدة تخدم استمرارية العلاقة بينهما بما لا يستفزّ الأطراف الأخرى المعنيّة بالساحة اللبنانية أو يتعارض مع مصالحها.
إقرأ أيضاً: عراقجي في بيروت يعتمد أسلوب “تاجر السجّاد”؟
لا تعني هذه الأولويّة الدبلوماسية نهاية أو انتهاء وتوقّف وقطع العلاقة العسكرية والأمنيّة بين “الحزب” وحرس الثورة وقوّة القدس، بل تراجعها إلى المستوى الثاني، وهو ما يعني تغييراً في معادلات “الحزب” المؤسّسة، ووضع البعد السياسي في المقدّمة قبل البعد العسكري، بعدما وُضع العمل السياسي والعلاقة مع الدولة والخارج في خدمة الجانب العسكري، فكانت النتيجة التقليل من أهميّته ودوره في رسم المعادلات على الأقلّ في المرحلة الحالية التي لم تشهد أيّ مؤشّرات إلى ولادة مشروع اتّفاق أو تفاهم مستدام وراسخ بين إيران والولايات المتّحدة حول حجم وحدود الدور الذي تطمح إليه طهران في الإقليم ويسمح لها بإعادة ترميم مشروعها بالحدّ الأدنى، علاوة على تقليل آثار وتداعيات الخسائر التي لحقت بها بعد السابع من أكتوبر وعمليّة طوفان الأقصى.