فعلها بنيامين نتنياهو. حقّق حلماً قديماً راوده منذ عقدين. وجّه أقوى ضربة لإيران وبرنامجها النووي وقدراتها العسكرية، ووضع النظام الإيراني في مهبّ رياح التغيير، والمنطقة برمّتها أمام مشهد سورياليّ يعجز الاستراتيجيّون الكبار عن رسم معالمه.
هجوم جوّي وسيبرانيّ وأمنيّ كاسح يخرق أجواء إيران وأراضيها ويفعل في الداخل ما لم يكن أحد يتخيّله. في ليلة حالكة السواد، قُضي فيها على عدد من القادة العسكريين الإيرانيين الكبار ومعهم رهط من نخبة العلماء النوويين، علاوة على تدمير مواقع عسكرية حسّاسة، وأنباء عن تعرّض المنشآت النووية الإيرانية لأضرار فادحة.
عمليّة محبوكة تفوق بخبثها عمليّة “البيجرز” التي استهدفت ناشطي “الحزب”، وهجوم المسيّرات الأوكرانية على القاذفات الاستراتيجية في العمق الروسي. هجوم مزدوج نفّذته الطائرات الحربيّة جوّاً، وعملاء الموساد في الميدان. القناة الـ12 الإسرائيلية أكّدت أنّ جهاز المخابرات الإسرائيلي أنشأ قاعدة للمسيّرات بالقرب من أنظمة عسكرية، تمكّنت من تدمير منظومة الصواريخ الاستراتيجية والدفاعية الإيرانية.
لا شريك نوويّاً لإسرائيل
نتنياهو الذي يدرك أنّ قدرة إسرائيل على الاحتفاظ بوضعها كنقطة ارتكاز أساسيّة في الشرق الأوسط وقوّة عسكرية مهيمنة على الإقليم، تكمن فقط في كونها الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، لا شريك لها ولا منافس. أسلافه دمّروا المفاعل النووي العراقي والمحطّة النوويّة السوريّة، وهو أخذ على عاتقه حرمان إيران من هذه القدرة.
استغلّ لحظة انسداد الأفق التفاوضي بين واشنطن وطهران والإصرار الإيراني على مواصلة تخصيب اليورانيوم على الأرض الإيرانية، لعرض العضلات العسكرية الإسرائيلية وتدمير كلّ ما استطاعت إليه الطائرات سبيلاً. وربّما لا يزال يخبّىء مفاجآت وضربات أدهى وأشدّ.
أولى نتائج الضربة ترحيل الجولة السادسة من المحادثات الأميركية في مسقط إلى أجل غير مسمّى
إيران في أضعف لحظاتها
في المقابل، وقعت طهران في شرّ ما حاولت تجنّبه دائماً. أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض. تردّدها في الدفاع عن أطراف محورها الذين جرى استفرادهم الواحد تلو الآخر، جعلها عارية بلا دروع. جاءت اللحظة الحاسمة، وهي في أضعف لحظاتها:
– داخليّاً بسبب تفاقم أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، بعدما صرفت مقدّراتها الماليّة على تصدير الثورة بدلاً من تطوير التنمية.
– إقليميّاً بعد الضربات الهائلة التي تلقّاها محورها وحلفاؤها، لا سيما سوريا وخطّ دفاعها الأوّل “الحزب” الذي اعتقدت أنّ صواريخه الموجّهة إلى قلب إسرائيل هي ضمانتها الأمنيّة الأفعل.
– عسكريّاً بعد الغارات الإسرائيلية التي استهدفت دفاعاتها الجوّية وخلّاطات الوقود لصواريخها البالستية.
إيران
– دوليّاً، انشغال روسيا عنها في الحرب الأوكرانية واهتمام الصين بالطوق الأميركي الذي يُضرب حولها.
ترحيل المحادثات
أولى نتائج الضربة ترحيل الجولة السادسة من المحادثات الأميركية في مسقط إلى أجل غير مسمّى. واللقاء الذي كان متوقّعاً بين المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي صار بلا جدوى وقد يؤجّل مع تأجيل المفاوضات التي صار مصيرها معلّقاً بمصير حرب كبرى قد بدأت للتوّ.
هل خدع الرئيس الأميركي دونالد ترامب القيادة الإيرانية، وأوهمها بأنّه يريد صفقة واتّفاقاً مربحاً أيّاً كان الثمن، ولا يريد الحرب أيّاً كان الدافع؟ هل طلب فعلاً من نتنياهو تجنّب الضربة وترك المفاوضات تأخذ مجراها الطبيعي؟ أم أراد ضربة قاسية لكن محدودة لإجبار إيران على التراجع عن حقّها بالتخصيب والانصياع للسياسة الأميركية ومغادرة تموضعها الجيوسياسي الحاليّ، وفتح مواردها والمقدّرات أمام الاستثمار الأميركي ومصالح واشنطن وشركاتها الكبرى؟
إيران في وضع لا تُحسد عليه، فإمّا تنصاع وتعود إلى المفاوضات من موقع الضعيف المستعدّ لتقديم أقصى التنازلات من أجل بقاء نظامها
ثمّة فرق شاسع بين سيناريو تهاجم فيه إسرائيل إيران بلا دعم أميركي، وآخر منسّق مع واشنطن. إسرائيل لا تزال تحتاج إلى أميركا لتعزيز دفاعاتها الجوّية في حال هجوم إيراني مضادّ، أو في حال هجوم متعدّد الطلعات الجوّية والجولات القتالية. حصلت إسرائيل على طائرات “إف-35” الفائقة التطوّر والتقنيّة والقنابل الذكيّة من واشنطن التي تدرك الغاية الأساسية لرغبة إسرائيل في امتلاكها. وما كانت هذه الطائرات تعبر آلاف الكيلومترات الفاصلة بين المطارات الإسرائيلية والعمق الإيراني لولا الغطاء الأميركي اللازم!
نموذج بيرل هاربر
ساهم ترامب بنفسه في إعداد المسرح الملائم لتوجيه الضربة وحضّر الرأي العامّ لتقبّلها وغضّ النظر عنها. ذكر في آخر تصريحاته أنّ ثقته بطهران تراجعت، وأنّها صارت “أكثر عدوانيّة” في المفاوضات. وشدّد على أنّ “أميركا لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي على الإطلاق”. وقال إنّه “واثق الآن أكثر من أيّ وقت مضى بأنّ جيش الولايات المتّحدة سيضيف مجداً تلو آخر في الأيّام المقبلة”. وذهب قائد القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) الجنرال مايكل كوريلا إلى ما هو أبعد بالتهديد باستخدام “القوّة” لمنع طهران من امتلاك سلاح نوويّ، مضيفاً أنّ الجيش وضع خططاً في حال تعثّرت المحادثات النوويّة.
ثمّة فرق شاسع بين سيناريو تهاجم فيه إسرائيل إيران بلا دعم أميركي، وآخر منسّق مع واشنطن
إيران في وضع لا تُحسد عليه، فإمّا تنصاع وتعود إلى المفاوضات من موقع الضعيف المستعدّ لتقديم أقصى التنازلات من أجل بقاء نظامها على حساب أيّ شيء آخر، وإمّا خوض مواجهة مفتوحة ومختلّة التوازن عسكريّاً. ذلك أنّ أيّ ردّ منها على إسرائيل قد يضعها في مواجهة مباشرة مع الأميركي الذي تعهّد حماية أمن الدولة العبرية وأمنها.
إذا كان لا يزال في جعبتها العسكرية الكثير من أوراق القوّة كإغلاق المضيقين هرمز وباب المندب، وتعطيل ممرّات الطاقة وضرب القواعد العسكرية الأميركية، لكنّ ذلك إن حدث قد يعتبره البعض أشبه بـ”خطيئة” اليابانيّين في “بيرل هاربر” في الحرب العالمية الثانية، التي كانت نتيجتها تدميراً ساحقاً للمدن اليابانية واستسلاماً مذلّاً لبلاد الشمس.
إقرأ أيضاً: عندما تسقط إيران في ساعات!
إنّها لحظات حاسمة في تاريخ الشرق الوسط قد يتقرّر في ضوء مساراتها وتفاعلاتها والنتائج مشهد جديد مغاير لكلّ ما عرفته المنطقة منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى.