أثار الهجوم الإسرائيلي على إيران قلقا بالغا في مختلف أنحاء العالم، ودق ناقوس الخطر من احتمال اندلاع حرب إقليمية، واستخدام أسلحة نووية تكتيكية، بل وربما تطورت الأمور نحو حرب عالمية ثالثة.
وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحة أن العملية ضدّ إيران لم تكن وليدة ساعتها، بل نتاج تخطيط استمر فترة طويلة، مع اقتراب الأخيرة من تطوير سلاح نووي. وتُصر إيران، التي تطور برنامجا نوويا مدنيا منذ أكثر من خمسين عاما، على أن برنامجها النووي مخصص للأغراض السلمية فقط.
وتتفاوض الولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني منذ أبريل/نيسان، وفي نهاية مايو/أيار، صرّح الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن البلدين باتا قريبين من التوصل إلى اتفاق، وهو ما لم تؤكده إيران.
في المقابل، أفادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران تمتلك كمية قياسية من اليورانيوم المخصب، وأنها لا تفي بالتزاماتها المتعلقة بحظر الانتشار النووي.
ويتضح أن هذا الصراع يتجاوز بكثير ما شهدته المنطقة خلال الهجمات الإسرائيلية والرد الإيراني الذي أعقبها في أكتوبر/تشرين الأول 2024. فقد شنت إسرائيل ضربات دقيقة استهدفت منشآت نووية وعسكرية في مناطق متفرقة من إيران، وأسفرت عن مقتل نحو اثني عشر قائدا رفيع المستوى، بينهم قائد “الحرس الثوري”، ورئيس الأركان العامة، وقائد القوات الجوية، إضافة إلى عدد من العلماء النوويين الإيرانيين.
وجاء الرد الإيراني ليُلحق بدوره أضرارا جسيمة بإسرائيل، إلا أن الضربات الإسرائيلية تفوقت عليه بشكل كبير من حيث النتائج العسكرية. ففي مقابل مقتل ثمانين شخصا بين المدنيين الإيرانيين وإصابة عدد أكبر من ذلك بكثير، قُتل في إسرائيل تسعة أشخاص فقط وأصيب نحو مئة وخمسين.
لقد غدت الاغتيالات عنصرا أساسيا في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وهي تستهدف البنية القيادية أو قادة العدو المباشرين. وعلى الرغم من التحذيرات العلنية، التي شملت دعوة المواطنين الأميركيين إلى توخي الحذر، وإجلاء العائلات، وإغلاق السفارات، فإن إيران فوجئت مجددًا.
إضافة إلى قدراتها الاستخباراتية المعتمدة على التكنولوجيا، تعتمد إسرائيل على شبكة بشرية واسعة النطاق داخل إيران. وبفضل هذه الشبكة، تمكنت من تهريب أنواع مختلفة من الأسلحة، ونشر عملاء لتنفيذ عمليات دقيقة، في تكرار لما قامت به أوكرانيا داخل الأراضي الروسية قبل أسابيع قليلة.
وتواصل إيران تصعيد خطابها، مهددة باستهداف القواعد والسفن الأميركية، فضلا عن القواعد والسفن الفرنسية والبريطانية، في حال واصلت هذه الدول تقديم الدعم العسكري لإسرائيل. ويأتي هذا التصعيد بعدما أعلنت إسرائيل أنها تصدت للهجمات الإيرانية بمساعدة من الولايات المتحدة وحلفاء آخرين.
يواجه نتنياهو تحديات متصاعدة داخل إسرائيل رغم نزعته المتشددة وسلطته شبه المطلقة
وقد ركزت الضربات الإسرائيلية الأخيرة على منشآت نووية في نطنز وفوردو وأصفهان. وأكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن مستوى النشاط الإشعاعي خارج منشأة نطنز لم يشهد أي تغير، وظل ضمن المستويات الطبيعية، إلا أنها أشارت إلى وجود تلوث إشعاعي وكيميائي داخل تلك المنشآت.
ومن المعروف أن إسرائيل تعمل منذ فترة طويلة على استهداف القيادات العليا في معسكر خصومها، في إطار تحضيراتها لما تصفه بـ”الضربة الكبرى”. غير أن الاعتقاد السائد لدى الكثير من المراقبين كان أن الولايات المتحدة لن تمنح الضوء الأخضر لمثل هذه العملية الكبرى ضد إيران، لاسيما في ظل المفاوضات الجارية بين البلدين، والشائعات حول وجود خلاف بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
لكن بحلول هذه المرحلة، كان من الواجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن ترمب قادر على انتهاج سياسات متناقضة في الوقت ذاته، والمعروف أنه مصمم على منع إيران من حيازة السلاح النووي تحت أي ظرف.
ففي الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2024، وأثناء حملة انتخابية في ولاية كارولينا الشمالية، صرّح ترمب، الذي كان مرشحا آنذاك، بأن على إسرائيل مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. وعندما سُئل عن رأيه في تصريح سابق للرئيس جو بايدن، الذي أعلن أنه لن يدعم إسرائيل في هذه الضربات، قال ترمب: “الأسلحة النووية هي الخطر الأكبر. كان ينبغي أن يكون رد بايدن: لنضرب النووي أولا، ولنقلق بشأن الباقي لاحقا.”
في الداخل الإيراني، يسيطر النظام بخطاب ديني ووطني وبقبضة حديدية، غير أن المؤشرات المتزايدة تدل على أنه يواجه تراجعا قد يقوده إلى نهايته.
وفي المقابل، يواجه نتنياهو أيضا تحديات متصاعدة داخل إسرائيل رغم نزعته المتشددة وسلطته شبه المطلقة. إذ تشهد الساحة الدولية تصاعدا ملحوظا في معاداة السامية والمواقف المناهضة لإسرائيل، مدفوعة بسياسات حكومته اليمينية المتطرفة.
وعندما بدأت إسرائيل هجومها على غزة، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي بأن الجنود الإسرائيليين هذه المرة سيقاتلون من دون التقيد بأي قواعد عسكرية، ولن يُحاسبوا على ما يفعلونه. ويبدو أن هذا التصريح لم يبقَ مجرد خطاب، بل أصبح سياسة رسمية تنتهجها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
ورغم معارضة عدد كبير من المواطنين الإسرائيليين لسياسات نتنياهو، فإنهم يجدون أنفسهم أمام معضلة، إذ إنهم لا يرون مانعا من إلحاق الضرر الكبير بأعداء إسرائيل، وعلى رأسهم إيران وحماس وسوريا.
وقد أثارت سياسات نتنياهو استياء متزايدا لدى ترمب، ما سلط مزيدا من الضوء على التوتر القائم بين الزعيمين. ومع ذلك، ورغم خلافاتهما، لا تزال الشراكة والتعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل قائمين بقوة، فترمب يدرك جيدا أن اللوبي الداعم لإسرائيل يتمتع بنفوذ كبير داخل الكونغرس الأميركي، وهو يعتمد على دعمه من أجل تمرير التشريعات والتعامل مع قضايا الميزانية.
كما لا يمكن إغفال أهمية الرابطة الإنجيلية الصهيونية، التي تشكل عنصرا محوريا في هذا التحالف.
نحن اليوم أمام واقع جديد، إذ تعمل إسرائيل والولايات المتحدة على إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط من جديد. وبعد العمليات العسكرية التي طالت سوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية، تراجعت الهيمنة الإقليمية لإيران. فقد تلقت مؤخرًا ضربات موجعة في لبنان وسوريا والعراق، ما أدى إلى قطع طريقها اللوجستي الذي يمر عبر سوريا إلى لبنان.
ومن بين العوامل الحاسمة التي ستحدد مستقبل المنطقة، يبرز الدور الذي ستلعبه كل من مصر والسعودية وتركيا، إذ إن توجهات هذه الدول سيكون لها تأثير كبير على مآلات الصراع.
نجد أنفسنا الآن أمام أسئلة محورية قد يحدد الجواب عنها مصير المنطقة برمتها: هل سترضخ إيران؟ هل سيجلس ممثلو الحكم في طهران إلى طاولة المفاوضات؟ وهل سيقبل بالشروط المفروضة من جانب إسرائيل والولايات المتحدة؟ وإن حدث ذلك، فهل ستكون هذه الخطوة بداية نهاية النظام الإيراني؟
ورغم اختلاف وجهات النظر بين إسرائيل والولايات المتحدة في عدد من الملفات، فإنهما تتفقان على ضرورة منع إيران من امتلاك السلاح النووي. وقد دعا نتنياهو بشكل صريح إلى تغيير النظام في طهران، مؤكدا أن الهدف النهائي لا يتحقق إلا بزوال الحكم الحالي.
أما الولايات المتحدة، فرغم عدم رغبتها في التدخل المباشر لفرض هذا السيناريو، فإنها لن تعارض سقوط النظام، الذي قد يخدم بقاؤه بعض المصالح الأميركية من جهة، فيما قد يقود انهياره إلى تداعيات خطيرة تتجاوز الحدود الإيرانية من جهة أخرى.
يتمثل السيناريو الأخطر اليوم في احتمال نشوب مواجهة مباشرة بين إسرائيل وتركيا، إذ تدرك تل أبيب جيدا أن أنقرة خصم لا يمكن احتواؤه بسهولة
ففي حال انزلقت إيران إلى الفوضى، فإن موجة جديدة من اللاجئين، تضم مئات الآلاف من الإيرانيين إضافة إلى اللاجئين الأفغان المقيمين في إيران، ستتجه نحو تركيا وأوروبا، ما ينذر بحالة عدم استقرار إقليمي، ويضع المجتمع الدولي أمام تحديات إنسانية جديدة، في وقت تعاني فيه الأمم المتحدة من أعباء متزايدة.
ولكن إسرائيل لن تشعر بالأسى إذا اجتاحت تركيا موجة أخرى من الاضطراب، نظرا للعلاقات المتوترة والمشحونة بين البلدين على مدى السنوات الماضية. وقد تجلى ذلك مؤخرا خلال زيارة الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي إلى إسرائيل، عندما صرّح نتنياهو أمام الكنيست بأن “الإمبراطورية العثمانية لن تعود،” في إشارة مباشرة إلى رفض التطلعات الإقليمية التركية.
أ ف ب أ ف ب
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يلقي كلمته امام قمة الدول التركية في قرغيزيا في 6 نوفمبر
ورد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ذلك في بيان رسمي، اعتبر فيه الهجمات الإسرائيلية على إيران استفزازا ينتهك القانون الدولي، محذرا من أن نتنياهو يجر المنطقة والعالم نحو كارثة، وداعيا المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل لوقف إسرائيل.
وفي لهجة أشد، تحدث دولت بهجلي، رئيس حزب “الحركة القومية” وأقرب حلفاء أردوغان، مؤكدا أن التصدي لإسرائيل مسؤولية تاريخية تمليها ضرورات الأمن القومي التركي، فضلا عن أهمية السلام الإقليمي، مشددا على أن جميع السبل الدبلوماسية استُنفدت، وأن الوقت قد حان لاستخدام القوة لردع إسرائيل.
ويتمثل السيناريو الأخطر اليوم في احتمال نشوب مواجهة مباشرة بين إسرائيل وتركيا، إذ تدرك تل أبيب جيدا أن أنقرة خصم لا يمكن احتواؤه بسهولة، وأي صراع مفتوح سيُلحق أضرارا جسيمة بكلا الطرفين، وكلاهما يعلم ذلك علم اليقين.
ومع ذلك، فإن ما تشهده المنطقة من تحولات متسارعة يكشف عن أن الكثير من السياسات باتت تتجاوز حدود المنطق، ما ينذر بتغيرات قد تعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة.
+ / –
font change
حفظ
شارك