احتار جزءٌ كبيرٌ من اللبنانيين في أسباب تعثّر انطلاقة “العهد” على الرغم من كل الزخم الداخلي والخارجي غير المسبوق الذي واكبه، والذي تجلّى بعودة لبنان إلى الأجندة الأميركية وتعيين موفدة خاصّة إليه، إضافة إلى سفير مقرّب جدًا من الرئيس الأميركي في طريقه إلى بيروت.. وعودته إلى الأجندة العربية بكل طبعاتها السعودية والإماراتية والقطرية والمصرية وحتى السورية الناشئة حديثًا، في إجماعٍ عربي على قراءة موحّدة لأوضاعه لم يحصل منذ زمن طويل. هذان الإجماعان العربي والدولي انعكسا تأييدًا شبه تام من المكوّنات اللبنانية التي، عن قناعة أو عن اضطرار، وجدت نفسها تمنح العهد (رئاسةً وحكومة) ثقة شعبية معتبرة تبلورت في مواقف أكثرية الكتل النيابية في البرلمان في لحظة انتخاب رئيس الجمهورية، ومن ثم تسمية رئيس الوزراء، وحتى في إعطاء الثقة للحكومة وإمرار بيان وزاري وفق صياغة مُبارَكة خارجيًا. فعلت ذلك أغلب الظن بانتظار أن “يتعَب” هذا الخارج وتعود “الأعمال” إلى سابق عهدها.
غنيٌّ عن القول أن كلّ ذلك ما كان ليتحقق لولا حرب الإسناد وما انتهت إليه من نتائج كارثية على كامل محور الممانعة. ما شكّل فرصة تاريخية جديدة أمام اللبنانيين لوضع نقطة على السطر والشروع بكتابة فصلٍ جديد من تاريخهم. وهو ما ردّده الرئيس الأميركي بالذات أكثر من مرّة، وكرّرته إدارته مرارًا، ولا سيما نائبة موفده إلى الشرق الأوسط (ومن ثم إلى العالم) مورغان أورتاغوس. وسار على المنوال نفسه موفد الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي وكافة الملوك والرؤساء والوزراء العرب الذين التقوا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في الفترة القصيرة الماضية، وطالبوهما الإسراع في وضع خطاب القَسَم والبيان الوزاري قيد التنفيذ لتفادي حصول أي انتكاسة غير متوقَّعَة (أو ربّما متوقَّعَة)!
هل نتسرّع في إطلاق أحكام متشائمة؟
بعض المتفائلين فِطريًا أو مصلحيًا لا يحبّذون عبارات “تعثّر” أو “فشل” أو حتى “انتكاسة”، ويعتبرون أن الوقت ما زال مبكرًا للقيام بتقييم من هذا القبيل. وأن الأمور تسير عمومًا بشكل جيّد. ويعطون أمثلة عن نجاح العهد في القيام ببعض التعيينات الأساسية وفي إمرار بعض القوانين المطلوبة من صندوق النقد والبنك الدولي، إلى إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية في وقتها، وتأهيل المطار وضبطه وتنظيف طريقه، الخ. ويضيفون إلى ذلك بدء الحوار وجهًا لوجه بين الرئيس وقيادة حزب الله للبحث في تسليم سلاحه غير الشرعي الممنوع من الصرف.
ولكن هذه الخطوات، على أهميتها، لا تخفي خطورة المساومات والتسويات غير النبيلة التي رافقتها. وهي ليست مجرّد اتفاقات تقنية بسيطة لا بدّ منها لتمرير قانون من هنا أو من هناك كما يحصل في معظم أروقة وقاعات برلمانات العالم. خطورتها تكمن في أنها تكرّس من جديد، وعلى أيدي دعاة الإصلاح، أعرافًا قاسية على النظام الديمقراطي لا تطيح فقط بما يعِدون به هم أنفسهم، وإنما تكبّل أيديهم وتمنع قيام الدولة السيّدة النقيضة لدولة المحاصصة والفساد وغياب الحوكمة والمحاسبة، التي استبشر اللبنانيون بقرب تحققها بُعَيد انتخاب فخامة الرئيس وقَسَمه القوي وتكليف الاصلاحي نواف سلام من خارج نادي الفساد اللبناني المستدام بل على النقيض من هذا النادي.
الجميع شركاء في دم الصدّيق
ولكن لم تجر الرياح بما اشتهته السفن. غالبًا لا تفعل. فالقوى السياسية اللبنانية المتعوّدة، كلٌّ من موقعه، التعامل مع الدولة والبلاد كغنيمة يجب عليها تقاسمها إيفاءً بوعودها أمام جمهورها وناخبيها، لن تتخلّى بسهولة وطواعية عن “مراكزها” فيها لمجرّد أنَّ صفحة طُويت وصفحة جديدة بدا وكأنها قد فُتحَت. وأبلغ ما يعبّر عن هذا المزاج تصريح المرشح الخاسر لرئاسة مجلس الوزراء مقابل سلام الرئيس نجيب ميقاتي حين اعتبر أن الفارق بينه وبين سلام هو فقط ” متر واحد طول” وحين رأى في تشكيل الحكومة “استنساخاً لحكومات سابقة”. لقد كان صادقًا مع نفسه في قوله. وهو بذلك على الأقل أكثر صراحةً من زملائه في النادي. هم يعتبرون أن الوقت كفيلٌ بإنهاء أي إصلاح حقيقي للنظام القائم خاصة وأن عناصر قوة أساسية ما زالت بعيدة من أيدي “العهد”. وعلى رأس هذه العناصر يأتي مجلس النواب (ورئيسه) كمتراس صلب ومتين لطبقة سياسية ترفض الاستسلام والتنحّي مستقوية بتأييد “شعبي” يتمسّك بها ويعيدها إلى المجلس في كلّ استحقاق. فتتحقق إحدى مقولات زياد الرحباني التهكّمية العميقة “الشعب عم يستغلّ الزعما والزعما معتّرين”! هم معتّرون (مغلوبون على أمرهم) ليس لأن أمرهم ليس بيدهم وإنما لأنهم يعرفون جمهورهم ومطالبه ويحبّونه وينزلون عند رغبته في تحصيل حقوقهم (وغيرها) من هذا النظام الفعّال في إعادة إنتاج نفسه فيكافأهم هو الآخر بإعادة انتخابهم بمساعدة قانون انتخابات (لا فرق نسبيًا كان أم أكثريًا) جاهزٌ كي يسارع في هواهم. وهذا الجمهور ليس أقليّةً كما اعتقدنا ويتصوّر “التغييريون” وإنما هو الأكثرية الناخبة. أما الأكثرية الحقيقية فيصحُّ فيها مقولة أخرى أكثر قساوة للرحباني وأكثر تعبيرًا (ثمانون بالمئة من اللبنانيين يريدون لبنان جديد، وثمانون بالمئة لا يريدون لا جديد ولا قديم، يريدون الصَرفة! وبما أنه في كلّ مئة يوجد ثمانون واحدة إذًا هم نفس الثمانون.. ساعة يتكلّمون في هذا الاتجاه وساعة في ذاك.. روّحونا!).
والحقّ يُقال أن رئيس مجلس النواب في ممانعته لأي إصلاح لا يستند فقط إلى القاعدة “الديمقراطية” (تأييد الكتلة الناخبة) ولا حتى إلى القاعدة الزبائنية (تبادل الخدمات مع هذه الكتلة)، وإنما وفي الأساس إلى فائض القوة الذي ثبّته على رأس المجلس منذ 1992 وإلى الممارسات التي أرساها خلال ولايته الطويلة في صيانة النظام الطائفي والزبائني وانحناء الكتل الأخرى في البرلمان له، وحتى المُعارِضة سياسيًا منها، طمعًا واستفادةً من حصةٍ يرضى بمشاركتها معهم بذكاء وحنكة. فتصبح حدود اللعبة وسقوفها معروفة من الجميع ويصبح ولو بنِسَبٍ كبيرة التفاوت!
المخالفات دستورية للمجلس النيابي
لا فائدة الآن من تكرار المرّات المُخالفة للدستور التي دأبت عليها المجالس النيابية التي ترأسها السيد بري. بدءًا من أهلية تفسير مواد الدستور نفسه، إلى تفسير مواد حُكمية الانعقاد لانتخاب رئيس للجمهورية، إلى النظام الداخلي للمجلس المتوقف عن التنفيذ (مادة 43 من الدستور)، إلى المادة الهامة 44 من الدستور التي تقول بحق نزع الثقة من رئيس المجلس النيابي أو نائبه، بعد سنتين على انتخابهما، بأكثرية الثلثين من مجموع أعضائه بناءً على عريضة يوقعها عشرة نواب على الأقل. وغيرها الكثير من الممارسات التي حوّلت رئيس المجلس إلى مَلكٍ غير متوَّج. وهو اليوم شريكٌ مضاربٌ في معظم قرارات وتعيينات السلطة التنفيذية (في مخالفة صريحة لنص الدستور القائل بفصل السلطات) تحت حجج مختلفة يستخدمها أيضًا معارضيه في تطبيقٍ أمين لمتلازمة ستوكهولم (Stockholm Syndrome).
قد تكون هذه المتلازمة هي اليوم ما يضيّع على العهد الفرصة التي ألحّ عليها ترامب وماكرون وولي العهد السعودي وغيرهم. بعض وزراء المتلازمة سيسارع إلى القول إن الإصلاح هدفنا نحن ولا نتلقى أوامر من أحد من الخارج، وأننا سياديّون الخ الخ.. من وجه الاسطوانة المشروخة نفسها التي يردّدها الممانعون والفاسدون وباقي الشركاء. هؤلاء الوزراء طيّبون ومثقفون ويفهمون جيدًا التركيبة اللبنانية بل متخصّصون فيها، ضنينون بها، إلى درجة أنهم ما عادوا يقرأون على ما يبدو غيرها من مستجدات إقليمية ودولية هي بالذات كانت رافعة لوصولهم ولو كابروا. عدا عن أنّ إرضاء رئيس المجلس وفريقه سيؤدي آليًا كما رأينا إلى إرضاء باقي الشركاء موالين ومعارضين أي تنفيعهم على حساب المنفعة العامة.. فينتهي خطاب العهد بعد قليل على رفّ إحدى المكتبات أو في ندوةً بحثية في إحدى المؤسسات!