في سوريا التي احترقت على مهل، خصوصاً خلال العقد الأخير، لم يظهر الحقد (للأمانة طبقات من الحقد) كزرعٍ شيطانيّ نبت فجأة.
هو بذور بعثرتها خُفيةً أيادٍ معلومة قبل عقود، وعلى رؤوس الأشهاد في السنوات الأخيرة. نبتة سقتها لحظات قهر، وشهقات مختنقة في الأقبية، وجنازات مكسورة الظهر، ومقابر امتدّت على طول وعرض البلد. مع ذلك، ومن تجارب التاريخ، فإن الحقد المتراكم ليس قدراً أبدياً، بل هو قابل للتفكيك عبر مبادرات مدروسة.
من البداهة أنه حين سقوط الطاغية، لن يسقط الحقد معه على الفور. بل سيخرج من تحت الأنقاض، متكئاً على ذاكرة مجروحة، ليبحث له عن هدف شكّلته السنوات السابقة. وبالتأكيد سيجد في الجار المختلف، بالاسم والطائفة والعرق، عدواً مريحاً، تشكِّل عداوته مخرجاً نفسياً معقولاً يستند على آلاف الحكايات التي جرت على الأرض السورية. الأمر الذي يُحوّل لحظةً فاصلة يفترض أن تكون بداية مسار جديد نحو عدالة غائبة واستقرار طال انتظاره، إلى واقعٍ يكشف عن ارتدادات عنف من نوع مختلف، موجّهة هذه المرة من مجتمعات عانت سابقًا، ضد فئات ارتبطت بالنظام السابق، أو وُضعت قسراً في خانة الاتهام لمجرد انتمائها الطائفي.
ولكن هل حدود خرائط الانتقام واضحة وجليّة إلى هذه الدرجة؟ ولنسأل بوضوح أكثر: هل يكفي أن تكون علويّاً كي تُدان بلا محاكمة؟ للأسف، ستغدو الإجابة سهلة وواضحة لدى من عانوا القتل والتهجير والموت على أيدي نظام الأسد وبمساعدة، أو أقلّه بتأييد من الجار المختلف طائفياً. ليصبح العداء على الهوية الطائفية بمثابة بديهية لا تحتاج للنقاش. خضت شخصياً هذا النوع من الجدالات وكانت مخالفتي لتلك المسلمة، على الأقل في بدايات أي حوار مُستَغربة, بل بدَت أفكاري وكأنها مثالية مخبرية ومستوردة من خارج الواقع الذي عاشه هؤلاء المحاورين.
منذ سقوطه، وحتى اليوم بعد أكثر من ستة أشهر على انهيار نظام بشار الأسد، ظهرت موجات عنف في بعض المدن التي كانت أكثر تضرراً من آلته الحربية.
لم يصدّق هؤلاء المجروحون خلال سنوات القتل والتدمير، حين أخبرتهم أن لديَّ عشرات، بل مئات الأصدقاء العلويين، تقاسمنا معاً سنوات السجن! وبدوا مستغربين أن هؤلاء فقدوا سنوات من أعمارهم في أقبية سجون الأسد، بينما كان ملايين السُنّة، يخرجون إلى الشوارع تأييداً له، بل ويشارك مئات الآلاف منهم في كل الجرائم والمفاسد التي ارتكبها. في بعض شوارع مدينتي حمص، التي دُفن كثر من أبنائها تحت الركام، صار يكفي اليوم أن تُوصف بأنك “علويّ” لتكون عدواً مؤكّداً وليس محتملاً، لا لشيء، بل لأن الجلاد كان ينتمي لتلك الطائفة. ولأن العدالة تأخرت كثيراً، وكأنها ماتت على حواجز السياسة، ليقرّر البعض أن يأخذ الأمر على عاتقه وينتقم باسمها.
اليوم حين أستعرض مع نفسي أسماء هؤلاء الأصدقاء، وأعرف أنهم يتخوفون الخروج من منازلهم ليلاً كي لا يتعرضوا للقتل العشوائي، أو حتى للإهانات والمضايقات، أكاد أختنق وأوشك ألا أصدِّق! أسأل نفسي هل من يقتل مدنياً بريئاً يستردُّ الكرامة أم يدفن ما تبقى منها؟ ومن يصمت على ذلك، هل يبني دولة؟ أم يؤسس لحرب أخرى، أشد قسوة، وأقل معنى؟ إنها العدالة المؤجلة والمُعطّلة هي من تستنهض الثأر فتفتك بالمدنيين الأبرياء. ليس من الصعب فهم الخلفيات النفسية والتاريخية لهذا السلوك، وإن كان لا يمكن بأي حال تبريره. خلفيات تراكمت في ظل واقع ترسّخت فيه مشاعر الثأر، وتضخمت صورة “العلوي العدو” في المخيال الجمعي. ولكنَّ العدالة لا تكون بعدالةٍ إذا ما استنسخت أدوات الجريمة.
منذ سقوطه، وحتى اليوم بعد أكثر من ستة أشهر على انهيار نظام بشار الأسد، ظهرت موجات عنف في بعض المدن التي كانت أكثر تضرراً من آلته الحربية. في أحياء حمص وريف حماة وبعض ضواحي دمشق، وطبعاً ما شهدته مدن وأرياف الساحل من تسجيل لحالات استهداف لمدنيين علويين، أغلبهم لا علاقة لهم بأجهزة القمع أو بالميليشيات الطائفية. يكفي أن يكون الاسم من الطائفة (الخطأ)، أو أن يُفتضح من اللهجة، حتى يصبح هدفاً.
ممارسة هذا النوع من العنف لا يحتاج إلى إثبات تورّط المستهدفين، بل يُمارَس باعتباره “انتقاماً طبيعياً”، وكأن سوريا تحوّلت إلى مسرحٍ مفتوح للثأر، لا إلى وطن جديد يُفترض أنه يولد من ركام المأساة. طوال سنوات حربه على السوريين، ربط النظام السوري بقاءه بصناعة اصطفافات طائفية. قاتل باسمه كثير من العلويين، لكنه جعل من الجميع دروعاً بشرية، حتى ممن رفضوا الانضمام إليه. فكان أن ارتبطت صورة الطائفة العلوية في أذهان كثير من السنة بالقتل والحصار والموت تحت التعذيب. ولن يغيّر في الأمر أن الحقائق على الأرض لم تكن كذلك.
طبعاً في هذا المقام يجب ألا ننسى الفصائل الإسلامية المتطرفة التي ساهمت، بفائضٍ من الكرم، في تغذية الخطاب الطائفي، بفتاوى وسلوكيات عززت الكراهية، وعززت، بطبيعة الحال، معادلة أن كل علوي هو عدو ومجرم. معادلة، إضافة إلى أنها لا أخلاقية، فهي مدمِّرة وتضرب فكرة الدولة في الصميم. نعم، هذه التنظيمات لم تأتِ فقط بالسلاح، بل جاءت أيضاً بلغة سوداء سهّلت تبرير الانتقام، وعززت الانقسام العمودي بين مكونات المجتمع السوري.
بدل كل القرارات الارتجالية، كان على الإدارة الجديدة إنشاء هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية: تضم إضافةً إلى ممثلين عن أهالي الضحايا، حقوقيين وقضاة من ذوي السمعة النزيهة، فمصداقية أي مسار عدالة ترتبط بنزاهة القائمين عليه.
اليوم، حين تتكرّر الجرائم على خلفية طائفية، وتفشل الدولة في توقيف مرتكبيها أو في حماية الضحايا، فهذا يبقي (الدولة) في طور الفشل، فالدولة التي لا تحمي مواطنيها لا تستحق ثقتهم، بل تكرّس مفهوم “الأقوى ينجو”. للأسف، حتى الآن، لم تتخذ الحكومة الجديدة خطوات جدّية لمواجهة هذه الظاهرة. بل الأسوأ، أن بعض الهيئات التي شُكّلت باسم المصالحة الوطنية والسلم الأهلي تضم شخصيات أمنية سابقة أو محسوبة على قوى انتقامية. والسؤال هنا: كيف يمكن لأمثال هؤلاء أن يرسموا طريق العدالة؟
قبل أيام، أصدرت محكمة ألمانية في فرانكفورت حكماً بالسجن المؤبد على الطبيب السوري علاء موسى، بعد إدانته بتعذيب وقتل متظاهرين مصابين في مستشفى حمص العسكري. رحّب السوريون بالقرار باعتباره انتصاراً للعدالة، وإنْ جاء من بعيد. لكن اعترى هذا الترحيب ألمٌ صامت وأحياناً معلن: لماذا لا تتحقّق العدالة في بلادهم؟ ولماذا يُحاكم مجرمو الحرب في أوروبا، بينما يفلت القتلة من العقاب في سوريا؟ وإن كنّا نعرف أن العدالة الانتقالية تحتاج إلى سنوات، إلا أن خطوات أولّية توحي ببدايات جدّية كانت تكفي لتقول للسوريين، إننا انطلقنا على مسار صحيح، وهذ ما لم يحدث للأسف.
بدل كل القرارات الارتجالية، كان على الإدارة الجديدة إنشاء هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية: تضم إضافةً إلى ممثلين عن أهالي الضحايا، حقوقيين وقضاة من ذوي السمعة النزيهة، فمصداقية أي مسار عدالة ترتبط بنزاهة القائمين عليه. هيئة تتمتع بصلاحيات كاملة للتحقيق في الجرائم القديمة والجديدة، مع ضمان استقلالها عن السلطة التنفيذية. هيئة تتسلّح بصلاحيات قانونية حقيقية، ومهام واضحة تبدأ بتوثيق الجرائم، وتمنع استمرارها، وصولاً إلى تقديم المسؤولين عنها للمحاكم، بغض النظر عن طائفتهم أو موقعهم. محاكم تستند إلى أفعال وارتكابات الأشخاص لا إلى هوياتهم.
من بديهيات مهام الإدارة الجديدة، تأمين حماية فورية للأقليات المستهدفة. نعم، يجب إنشاء وحدات حماية تحت إشراف ورقابة مدنية مستقلة، لضمان عدم استهداف أي فرد على أساس طائفي، وتوقيف ومحاكمة المرتكبين. إضافة طبعاً إلى ملاحقة المحرّضين على الكراهية، سواء كانوا من رجال الدين أو الإعلام أو مواقع التواصل. فالكلمة التحريضية إن لم تقتل اليوم فإنها ستفعل غداً.
إثباتاً لسياسات جديدة تعطي صورة إيجابية عن سوريا القادمة، على الإدارة دعم مبادرات أهلية للمصالحة، وعلى المجتمع المدني أن يقود مبادرات حوار على المستوى المحلي، تشمل عائلات الضحايا من جميع الأطراف، وتبني سرديات تتجاوز الثنائية الطائفية، وتزيل كل تشويه عن السياق التاريخي لما جرى. مع الاعتراف بضحايا الجميع. لا يمكن التأسيس لسوريا جديدة من دون الاعتراف بأن هناك علويين قُتلوا أو لوحقوا لأنهم رفضوا القتل، وفي فترة لاحقة، خلال أيامنا هذه، قتلوا فقط لأنهم علويون، وسنّة قُتلوا لأنهم طالبوا بالحرية. كل هؤلاء ضحايا وطنٍ واحد جرَّه الأسد إلى الجحيم.
لست حالماً وأعرف أن العدالة ستبقى منقوصة، وكلما أغمضنا أعيننا عنها، ستسحب الدثار لتغطية المتنفذين الحاليين. ولكن على الأقل علينا أن نكرّس مفهوماً قريباً من العدالة. والقول إما دولة تحاسب الجميع، أو لا دولة على الإطلاق قد يبدو اليوم رومانسياً ولو أنه محقّ. ولكن رسائل الإدارة الجديدة إذا انبنت على التأكيد بأنه لا تبرير لقتل أي بريء. لا اليوم ولا أمس ولا غداً. وأن السكوت عن هذه الجرائم خيانة لضحايا الماضي كما هو خيانة لمستقبل سوريا. فإن هذا يعتبر اليوم خطوة مطمئنة، ولو أنها غير كافية، بأننا سوف نسير على طريق هو الأقرب للعدالة.
المقارنة اليوم لن تكون بين الحاضر والأحلام المثالية، بل بين الاستبداد المطلق لسلطة المافيا وبين الاحتمال الناشئ. الدولة التي نأمل بناءها لا يجب أن تكتفي بلعن بشار الأسد، بل أن تحاكم كل من يسير على خطاه، حتى وإن لبس عباءة الثورة أو غلّف جريمته بعبارات الانتقام بناء على مظلومية محقّة. هنا، لا يعود القتل فعل انتقام فردي فحسب، بل يتحوّل إلى مؤشر على عطب بنيوي في الدولة الوليدة. فما يبني ويحمي سوريا اليوم ليس السلاح، بل القانون. وما يضمن وحدتها ليس النسيان، بل العدالة.
google newsتابعنا عبر Google News