لن تتوقّف تداعيات الحرب الإسرائيلية الإيرانية عن التوالد، إقليميّاً ودوليّاً، عسكريّاً وأمنيّاً وسياسيّاً. من نافل القول أن يقلق اللبنانيون على المستويات كافّة من تداعيات تدحرجها إذا جرى إقحام البلد فيها. دول المنطقة برمّتها، بما فيها تلك المحصّنة داخليّاً أكثر من لبنان، تخوّفت من النتائج، قبل وقوعها. وعلاوة على أنّ الحرب ستؤخّر مسار التفاوض في الملفّ النوويّ، أجّلت العديدَ من الاستحقاقات، وفرضت مقاربات جديدة لمجرياتها.
مقابل الخسائر الضخمة التي ضربت إيران، ذاق الإسرائيليون الطعم المرّ لسقوط قتلى من المدنيّين في حيفا وتل أبيب، و”فقدان” آخرين تحت الأنقاض. هو نموذج عمّا يرتكبه جيشهم في غزّة، مع الفارق الشاسع في درجة الوحشيّة.
مسؤول لبناني كبير لـ”أساس”: تحذيرات عدّة تلقّتها بيروت من واشنطن وغيرها من الدول، من أنّ أيّ تورّط في الحرب سيستدرج ردّاً إسرائيلياً لا يُحتمل
ضرب إيران والمقتلة في غزّة
غابت عن معظم الشاشات أخبار الإبادة في القطاع. يوم السبت الماضي قتل القصف الإسرائيلي 70 غزّيّاً. أخبار استمرار المقتلة بالكاد مرّت بأسفل شريط الأحداث في المحطّات التلفزيونية.
من الوقائع التي أنتجتها المواجهة، بمعزل عن ميزان الربح والخسارة، أنّ مشاعر وقناعة الشعبين في إسرائيل وإيران تتصادم، إضافة إلى الآلة العسكريّة والقيادة فيهما. من جهة نجح بنيامين نتنياهو في تعظيم القدرات العسكرية الإيرانية والنوويّة، ليزرع في الشعب اليهودي الخوف من “بعبع” إيران. في المحصّلة حصد وحدة الإسرائيليّين، موالين ومعارضين، خلفه، وأحبط مسعى معارضيه إلى إسقاط حكومته. ساعدته في توحيد الإسرائيليين حوله المبالغة في خطاب الملالي، الأيديولوجيّ، الذي ادّعى القدرة على “محو الكيان بـ7 دقائق”.
في الجهة الإيرانية، كسب الحكّام ارتفاع منسوب الشعور القومي الفارسيّ الذي لازم أزمة منعهم من امتلاك القدرات النوويّة منذ 3 عقود. وضع معارضو النظام والإصلاحيون خلافهم جانباً أمام استهداف الجنون الإسرائيلي المدنيّين والاعتداد بأنّ “طهران تحترق”.
أخذ تبادل الضربات الموجعة والانتقام يصعِّب الانتقال إلى المفاوضات وفق القاعدة التي أعلنها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بقوله إنّ عودة التفاوض تتمّ “بعد الردّ”. فالردّ يستدرج الردّ في حلقة تعقِّد الوساطات التي أبدت دولٌ رغبة بلعب دور فيها. وأبرز تلك الإشارات ما أعلنه دونالد ترامب عن مكالمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معه والأنباء عن رفضه اغتيال إسرائيل المرشد علي خامنئي. قال إنّه اتّفق مع بوتين على وجوب وقف الحرب. وسبق أن تحدّث الأخير إلى نظيره الإيراني في هذا الشأن. وهناك تعويل في أوساط عربيّة على قدرة السعودية على لعب دور الوسيط جرّاء علاقتها مع ترامب، إذ كانت ودول الخليج أولى الدول التي دانت هجوم إسرائيل وخطورته. لكنّ هدف نتنياهو استدراج ترامب إلى ما هو أكثر من المساعدة بالمعلومات والتسليح.
من الوقائع التي أنتجتها المواجهة، بمعزل عن ميزان الربح والخسارة، أنّ مشاعر وقناعة الشعبين في إسرائيل وإيران تتصادم، إضافة إلى الآلة العسكريّة والقيادة فيهما
ماكرون والنّصائح بإبعاد لبنان…”لا مزاح”
في لبنان، وقبل التحذيرات الدولية لكبار المسؤولين من انزلاق “الحزب” إلى الحرب، بات معروفاً أنّه منذ الساعات الأولى لاندلاع الحرب فجر الجمعة الماضي طلب رئيس الحكومة نوّاف سلام من قائد الجيش العماد رودولف هيكل التواصل مع قيادة “الحزب” لتمرير رسالة بوجوب أن يمتنع عن توريط البلد بالحرب إلى جانب طهران، وأن يوفّر عليه أيّ مغامرة.
يقول مسؤول لبناني كبير لـ”أساس” إنّ تحذيرات عدّة تلقّتها بيروت من واشنطن وغيرها من الدول، من أنّ أيّ تورّط في الحرب سيستدرج ردّاً إسرائيلياً لا يُحتمل. جاء اتّصال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالرئيس جوزف عون الجمعة الماضي ليكرّر النصيحة ببقاء البلد “بعيداً” عن الحرب لخطورة أيّ انزلاق…”فلا مزاح”. افتراض الجانب الرسمي هو أن يستمرّ “الحزب” بالنأي بنفسه عنها. ويؤكّد مصدر دبلوماسي غربي أنّ مواقف “الحزب” وأداءه تحت المراقبة المستمرّة.
المراقبة اللّبنانيّة للمواجهة وحصريّة السّلاح
وسط القراءات اللبنانية المتعدّدة لانعكاسات الحرب على لبنان، طُرح في بعض الأوساط سؤالٌ عن إمكان أن تسرِّع بحثَ موضوع نزع سلاح “الحزب”. يفترض طارحو السؤال أنّ إيران تعرّضت لضربة قاسية تقود أذرعها إلى مراجعة حساباتهم حيال التشبّث بالاحتفاظ بإمكاناتهم العسكرية ما دامت لم تنفع بمواجهة التفوّق الإسرائيلي التكنولوجيّ والاستخباريّ والجوّي المدعوم أميركيّاً. إلّا أنّ المسؤول اللبناني الكبير نفسه يوضح لـ”أساس” أنّه “يصعب التكهّن بما ستؤول إليه التوازنات” في المواجهة وانعكاساتها. يعتقد المسؤول أنّ “بالحرب أو بدونها، لا يمكن للدولة المساومة على عنوان حصريّة السلاح بيدها. ومواصلة البحث في ذلك لن تتوقّف”.
مَن الوسيط لوقف الحرب؟
انطباع الجهات الرسمية المتابعة لجهود وقف الحرب ومجرياتها أنّ مقارنة إمكان تحقيق إسرائيل أهدافها العسكرية في إيران بما أنجزته في لبنان غير واقعيّة. فإيران “قارّة” شاسعة المساحة قياساً إلى لبنان وغزّة، وإمكاناتها مختلفة. أمّا العودة إلى التفاوض وسط دعوات أوروبية إلى ذلك فمن الصعب التجاوب معها لأنّ الجانب الأوروبي الذي عدّل موقفه حيال الحرب على غزّة فأغضب إسرائيل، عاد وانحاز بالكامل إلى الدولة العبرية في حربها ضدّ إيران. تعتبر الترويكا الأوروبية أنّ طهران لم تلتقط إشارتها ودعمها للتقرير الأخير للمنظّمة الدولية للطاقة الذرّية عن عدم امتثالها لقراراتها المتّصلة ببرنامجها النووي. إذاً هذا يُفقد الجانب الأوروبي دور الوسيط، علاوة على التقديرات أن لا تميل واشنطن إلى منحه هذا الدور. وقد يفضّل ترامب الدور الروسيّ.
إقرأ أيضاً: الزلزال الثّالث: “نمنا في منطقة وصحونا على أخرى”
إحباط مؤتمر نيويورك
تتوقّف الحسابات اللبنانية في استعراض تداعيات الحرب عند إعلان الرئيس ماكرون تأجيل مؤتمر نيويورك “لحماية حلّ الدولتين”. كان يفترض أن ينعقد اليوم برعاية الأمم المتّحدة. يتساءل المسؤول اللبناني الكبير في حديثه مع “أساس” عن إمكان أن تكون حسابات نتنياهو شملت أن يبدأ هجومه على إيران في توقيت شبه متزامن مع موعد انعقاد المؤتمر، الذي أغضب تل أبيب من أوروبا وسائر الدول المتحمّسة للاعتراف بدولة فلسطين. انطلق الهجوم قبل 4 أيّام من اجتماع كان سيشترك في رئاسته ماكرون ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بحضوره الشخصي وفق تأكيد المسؤول اللبناني. صحيح أنّ الموعد الجديد للمؤتمر آخر تمّوز المقبل، لكنّ الحرب أحبطت فعّالية دوليّة كان سيحضرها قادة زهاء 150 دولة لرسم مسار إقامة دولة فلسطينية. وهو أمر يمكن تشبيهه بمؤتمر مدريد للسلام عام 1991.
بتأجيل المؤتمر فقد لبنان فرصة أن يستفيد من حضوره لحشد الدعم للتجديد لـ”اليونيفيل” والتخفيف من التعديلات بمهامّها، مقابل ضغط تل أبيب لإنهاء انتدابها.