لو حجبنا الاسم والعنوان الأيديولوجي والسيرة السياسية لمجمل القائمين على حُكم سوريا راهناً، وعرضنا كامل أعمالهم وسياساتهم خلال الشهور الستة الماضية على مراقب خارجي، طالبين منه التكهّن بالخلفية العقائدية التي يستمد منها هؤلاء سياساتهم العامة؛ لاستصعب القول إنهم “إسلاميون متطرفون، متمركزون في عقيدتهم السياسية والأيديولوجية على فكر تنظيم القاعدة الإسلامي الجهادي، الذي يقسم العالم والمجتمعات إلى دفتين متواجهتين، بينهما صراع أبدي مستميت”.
ليس في ذلك أيّ مديح أو إشادة بإسلاميي سوريا أو إمكانية حدوث تحوّل داخلي في بنيتهم الذهنية الأيديولوجية مع وصولهم إلى السلطة، كما تحاول ترسانة دعائية كبرى، داخلية موالية لهم وإقليمية مؤازرة، ترويج ذلك. بل على العكس تماماً، هو تأكيد على استحالة تنفيذهم لأيّ من نزعاتهم الأيديولوجية التي يُبعثرونها يميناً وشمالاً أثناء خطاباتهم المُتخمة بالشكيمة. فمجموع الوقائع الحياتية المحيطة ببلد مثل سوريا، وغالباً كل بلدان العالم، من حيث نوعية الحياة ومتطلباتها الحديثة، علاقة الكيان الدولتي بمحيطه السياسي، وبنية مؤسسات الدولة الناظمة للحياة العامة، صارت مستعصية تماماً على أن يفعل بها الإسلام السياسي أي شيء، ومثله أي دين ذو طموح سياسي.
فحُكّام سوريا الجدد، المتأتّون من الكهف السياسي المعروف بتطلعاته الاستثنائية، عقدوا خلال الفترة القصيرة التي لهم في سُدّة الحكم صفقات شراكة مع عدد لا يُحصى من رجال ومتعاملي النظام السابق، من بينهم قتلة وقادة لمجموعات مسلحة فتكت بآلاف السوريين، أغلبيتهم المطلقة من جمهور هذا الإسلام السياسي وبطانته الأيديولوجية والطائفية. كذلك تلهّفوا وفعلوا كل شيء في سبيل التقرب وتقديم الولاء للدولة الأكثر تعبيراً عن الحنق والعداء في وجدان الإسلام السياسي، والتي أُلصق بها كل سمات الشيطنة، أي الولايات المتحدة الأميركية. ومع الأمرين، قبلوا بأشياء مثل الإعلان الدستوري الذي أكّد مدنية الدولة ومساواة المواطنين بغضّ النظر عن الدين والطائفة والعرق، بل سمحوا بأشياء كانت في عِداد المستحيلات في مخيلة الإسلام السياسي، مثل القبول بالحريات المدنية، للنساء بالذات، وإدخالهنّ مع الكثير من أبناء الأقليات الدينية إلى سدّة الحكومة الحاكمة للبلاد.
لا يتطلب الأمر إعادة قراءة لتنظيمات الإسلام السياسي، لاكتشاف حقيقة الفارق الجوهري بين ما ينادون به وما يمكنهم أن يفعلوه، ودوماً بحكم الواقع المعاش وقوة الحقائق المناهضة والمعاكسة للإسلام السياسي على أرض الواقع، وهي تقريباً صارت من بديهيات علم الاجتماع السياسي عبر العالم. بل يشكّل حافزًا لمواجهة “متكلمي الإسلام السياسي”، الذين ما يزالون غارقين في بحر الكلام المجوّف حول ضرورة وحتمية تطبيق الحاكمية الإسلامية، ويقدّمونه عبر منابرهم إلى مجموعة من البسطاء الخاضعين لهيمنتهم الفكرية والتنظيمية والرمزية والمؤسساتية.
كذلك يُحفّز الأمر التوجه إلى القواعد الاجتماعية الأوسع انتشاراً والأكثر قابلية للانبهار بفخاخ الإغراء الكلامي الذي يقدّمه الإسلام السياسي، كاشفين لهم استحالة تنفيذ ما يطالبون به، وحتى على يدهم هم، وإن كانوا يستأثرون بسلطة حُكم بلادٍ واسعة، لوحدهم.
لا يعني الأمر أن الحُكّام الإسلاميين هؤلاء لا يملكون نزعات لفرض مثل تلك الوقائع على المجتمعات الخاضعة لهم، وإن بقوة القبضة الحديدية، وغالباً يقمعون غلياناً داخلياً في ذواتهم نحو ذلك. لكنهم يعرفون أكثر من غيرهم بأنّ ذلك سيُحطّم بنيان وهيكل حكمهم، من الأساس. لأنه سيعني فتح بوابة المواجهة مع الحساسيات والأجيال الأكثر عصرية وإيماناً بفداحة المزج بين الدين والدولة، بمواثيقها ومؤسساتها وهوياتها العامة. فهذه الأخيرة، أي الدولة، يمكن لها أن تؤدي مهامها برصانة وحرفية، فقط حينما تكون خاضعة لشروط ومناخات الانتظام الحديث ضمن الدولة وعبرها، الشروط التي لا يمكن لأيّ إسلام سياسي، حاكمي ومتطرف بالذات، أن يوفرها، بل قد يكون وصفة سريعة لما هو العكس تمامًا، وتاليًا أداة لخرابها من جذرها، وهدمها على رؤوس حكّامها الإسلاميين أولاً.
قد يُصدر حكّام سوريا الجدد قانوناً متطرفاً من هنا أو يتخذوا سياسة ذات هوى إسلامي من هناك، لكنهم سيتبرّؤون دوماً من كونها معتمدة لأسباب عقائدية، وسيتخلّون عنها فيما لو كانت ماسّة بأساس سلطانهم وسلطتهم، وسيفعلون الأمر نفسه لو كان محلّ رفض من قِبل الدول الراعية والمتداخلة مع الملف السوري.
الإسلام السياسي وزعيقه الأيديولوجي يشبهان حكايات كبرى كثيرة حدثت عبر التاريخ، كان حاملو راية التطرّف فيها يتوعدون الآخرين بسوء الطوالع فيما لو تمكنوا من السلطة؛ لكنهم ما لبثوا، حينما وصلوا إلى قمة مرادهم، أن اكتشفوا فداحة واستحالة تنفيذ ما كانوا يعتقدون أنه سدرة المنتهى من الأفعال. فالمغول البرابرة تفككت وحشيتهم وتبددت عبر حواضر البلدان التي احتلوها، التي صاروا، بالتقادم، جزءًا مما كان فيها من تعايش وقيم عليا في الحياة. مثلهم كانوا مقاتلو الفايكنغ، الذين خارت قوة سلوكياتهم البدائية في مواجهة مُدن وثقافات أوروبا الأكثر عمقًا، فصاروا جزءًا اعتياديًا من السكان بمرور الزمن.
ليس في الأمر مديح للمغول أو الفايكنغ، بل للحضارات التي فكّكت أوهامهم وأغرتهم بجمال حياة دون بربرية.