1.الطرق الليبرالية في صياغة السياسات الاقتصادية، تترك للسوق اليد الحرّة في التعاملات الاقتصادية وبناء المشاريع والتشغيل، وحتى الاستثمار بالخدمات الأساسية كالكهرباء والماء، وتُقلّص دور الدولة إلى حد كبير في تحديد أولويات التنمية، والسياسات الاجتماعية التنموية
2. Emblemsvåg, Jan. «Kicking Away the Ladder: Development Strategy in Historical Perspective». On the Horizon, vol. 13, 2005, pp. 186-191. ResearchGate.
3. محمد طرشي ونبيل بو فليح، «دور البنوك المركزية في تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي»، مجلة معارف (vol. 12, no. 22, 2017, pp. 327-339
بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024، بدأت تتبلور ملامح رؤية اقتصادية جديدة في سوريا، تقوم من جهة على تشجيع الاستثمار الخارجي حتى في القطاعات الحيوية وعلى إعادة هيكلة القطاع العام، ومن جهة أخرى على تقديم خطاب رسمي يُؤكد دعم المنتج الوطني وتحفيز القطاعات الزراعية والصناعية. وقد عبّرَ وزير الاقتصاد، محمد نضال الشعار، عن هذه التوجهات في أكثر من مناسبة، مُشدِّداً على أن الرؤية الانتقالية تهدف إلى خلق بيئة استثمارية جاذبة في القطاعات الاستراتيجية، مع ضمان أن الخصخصة لا تعني التخلي عن ملكية الدولة، بل «إدارة الأصول العامة لصالح الشعب»، على حدّ تعبيره.
ورغم جدية هذه الرؤية، إلا أنها في جوهرها ما تزال أقرب إلى المقاربات الليبرالية، 1 خصوصاً مع غياب سياسة صناعية وطنية واضحة، وغموضٍ مُستمر يُحيط بملفات أساسية، مثل: آليات ضبط التجارة الخارجية، ونظام التسهيلات الجمركية، وشكل قانون الاستثمار الجديد، وطبيعة إعادة هيكلة المؤسسات العامة. ويزداد هذا الغموض في ظل العقود التي تُبرمها الدولة حالياً مع مستثمرين خارجيين في قطاعات حيوية، كاتفاقية توليد الطاقة الكهربائية الموقعة مع تحالف دولي بقيمة 7 مليارات دولار، واتفاقية تطوير وتشغيل ميناء طرطوس مع شركة إماراتية بقيمة 800 مليون دولار. ورغم أن هذه الاتفاقيات تفتح المجال أمام تحديث البنية التحتية وتحفيز النمو، إلا أن تسليم مفاتيح قطاعات حساسة كالكهرباء والمرافئ لشركات أجنبية في غياب مؤسسات رقابية قوية يُثير مخاوفَ حقيقية بشأن مستقبل السيادة الاقتصادية، وعدالة توزيع العوائد، وتوازن العلاقة بين القطاعين العام والخاص في مرحلة حرجة من إعادة بناء الدولة.
وعلى هذا الأساس، فإن الدفع نحو تقليص الدور التدخلي للدولة، والاعتماد المتزايد على التمويل الخارجي في غيابِ استراتيجيةٍ إنتاجية واضحة ومتماسكة، أو إطار قانوني صارم لإدارة الاستثمارات، لا يبدو ملائماً لطبيعة المرحلة الانتقالية التي تتطلب دوراً مؤسسيّاً نشطاً للدولة، يضمن حماية المصالح الوطنية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
لا شك أن السياسات الاقتصادية المُعتمِدة على تحرير السوق نجحت في سياقات عدة، لكن متى؟ وماذا فعلت الاقتصادات الأقوى عندما كان اقتصادها مُدمراً؟ في كتابه التخلي عن السلم، 2 يُسلط الباحث ها-جون تشانغ الضوءَ على الكيفية التي دعمت بها الدول المتقدمة نموها الاقتصادي من خلال تدخل مباشر للدولة في حماية وتنمية قطاعات اقتصادية معينة، ووضع سياسات تجارية تدعم الإنتاج الوطني وتحد من حرية التجارة، وهو نهج يتناقض مع السياسات الليبرالية السائدة، التي تُقلّص دورَ الدّولة في الاقتصاد وتُحرّر القطاع التجاري. يستعرض تشانغ تجارب اقتصادات كبرى مثل الولايات المتحدة واليابان، حيث لعبت الدولة دوراً محورياً في الاستثمار ودعم القطاعات الإنتاجية خلال مراحل إعادة الإعمار، قبل أن تتجه لاحقاً إلى سياسات السوق المفتوح بعد تحقيق نمو اقتصادي مُستدام.
إن هذه التجارب تشير إلى أن السياسات الليبرالية المعتمدة على تحرير السوق – أو ما يُعرف بالاقتصاد السائد (Mainstream Economics) – ليست بالضرورة الخيار الأفضل كأساس لإعادة بناء الاقتصاد السوري. لذلك أَستعرضُ في هذا المقال رُؤى بديلة نظريّة من مدارس الاقتصاد غير التقليدية (Heterodox Economics)، مع التركيز على تجارب دول تبنّت سياساتٍ غير تقليدية في إعادة بناء اقتصادها بعد الحرب، وسأحاول إبقاء التركيز على الجانب الاقتصادي، لتجنُّب التشتت، دون إغفال الأبعاد الأمنية والسياسية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من أي عملية إعادة إعمار.
دور الدولة في الاستثمار والاقتصاد بعد الأزمات والحروب: ضرورة أم خطر؟
بالنسبة للبعض – خاصةً من عايشوا التجربة القاسية لتدخل الدولة في الاقتصاد السوري – قد يبدو الحديث عن دور تدخلي للدولة بمثابة إنذار بالخطر. هل نحن بصدد الدعوة إلى اقتصاد اشتراكي؟ لا، لنتمهل قليلاً!
إذا نظرنا إلى التجارب الاقتصادية العالمية بمنظور أكثر مرونة، بعيداً عن ثنائية «ليبرالي مقابل اشتراكي»، سنجد أنه حتى الدول التي تُعدّ مهد النيوليبرالية، مثل الولايات المتحدة، قد تبنّت في مراحل معينة سياسات إنفاق حكومي ضخمة لإنقاذ الاقتصاد. خلال أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، أطلقت إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت برنامج «الصفقة الجديدة» (New Deal)، الذي تضمّنَ مشاريع بنية تحتية واسعة النطاق وبرامج تشغيلية مدعومة حكومياً، ما ساهم في انتشال الاقتصاد الأميركي من أزمته، وتم إنشاء إدارة الأشغال العامة (Public Works Administration) التي موّلت بناء أكثر من 34,000 مشروع بنية تحتية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والجسور. كما أُنشئت إدارة تقدم الأعمال (Works Progress Administration) التي وفّرت وظائف لـ 8 ملايين شخص في مشاريع الأشغال العامة خلال ثمان سنوات.
من منظور اقتصادي غير تقليدي، لا يقتصر دور الدولة على الاستثمار في البنية التحتية، بل يمتد إلى التدخل الاستراتيجي في تحديد أولويات الاستثمار وتوجيهه نحو القطاعات ذات العائد المرتفع، لتحقيق نمو اقتصادي تراكمي ومُستدام. على هذا الأساس، تبنَّت كوريا الجنوبية عقب الحرب الكورية سياسات صناعية استراتيجية، حيث دعمت شركات «تشيبول» الكبرى مثل سامسونج وهيونداي، عبر تقديم تسهيلات مالية وإعانات حكومية، مما ساهم في بناء اقتصاد صناعي قوي من الصفر. ففي الفترة بين(1962) و(1995) ازداد الدخل الحقيقي بمعدل 15 ضعفاً، وحقّقَ الناتجُ المحليُّ نمواً سنوياً بما يقارب الـ 9 بالمئة.
في اليابان، لعبت الدولة دوراً أساسياً في توجيه الاستثمارات إلى القطاعات الإنتاجية، مثل الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا، عبرَ سياسات حكومية داعمة ساهمت في تحقيق نموٍ اقتصاديّ سريع ومُستدام، وبعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت الحكومة اليابانية وزارة التجارة الدولية والصناعة (MITI) التي كانت مسؤولة عن توجيه الاستثمارات وتطوير الصناعات الاستراتيجية. نتيجة لهذه السياسات، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لليابان بمعدلِ نموٍ سنوي بلغ حوالي 9.7 بالمئة بين عامي (1950) و( 1973)، مما جعلها واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم.
على الرغم من اختلاف السياقات، تُقدِّم هذه التجارب دروساً قيّمة يُمكن الاستفادة منها في إعادة بناء الاقتصاد السوري، مع التركيز على سبل تكييفها مع الواقع السوري لضمان تحقيق تنمية، ومن الجدير بالذكر أن تبنّيَ مثل هذه السياسات في سوريا يرتبط بعوامل جيوسياسية، مثل مدى تأثير القوى الإقليمية والدول المانحة على القرارات الاقتصادية. لكن مع ذلك، من المهم أن تُطرح نماذج اقتصادية بديلة، كالتجربة الكورية أو اليابانية، للاستفادة منها في تحديد قطاعات استراتيجية، مثل الطاقة المتجددة، التكنولوجيا الزراعية، والصناعات التحويلية، ومنحها دعماً حكومياً خاصاً لخلق قيمة مضافة وتعزيز النمو الاقتصادي.
المبدأ النظريُّ الداعم لسياسات الدولة التدخليَّة
تقوم بعض السياسات الداعية للتدخل الحكومي على الأسس النظرية للاقتصاد الكينزي، التي تُؤكد على أهمية «الطلب الفعّال» والإنفاق العجزي، خاصةً في فترات الركود أو بعد الأزمات الكبرى. بحسب كينز، يُمكن للإنفاق الحكومي أن يسدَّ فجوة الطلب، ويخلق فرص عمل، ويُحفّز النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات.
يَعتمد هذا الطرح على مفهوم «المضاعف الاقتصادي» (Multiplier Effect)، حيث تُؤدي الاستثمارات الحكومية إلى زيادة الدخل العام للمواطنين، مما يرفع الطلبَ الكلي، ويُحفز الشركات على زيادة الإنتاج، وهو ما يُولِّد دورة من النمو المستدام. على سبيل المثال، عندما أطلقت الولايات المتحدة برنامج «الصفقة الجديدة» خلال أزمة الكساد الكبير، قامت الدولة بإنفاق حكومي واسع على مشاريع البنية التحتية، مما ساهم في خلق ملايين الوظائف وتحقيق انتعاش اقتصادي.
من أين ستحصل الدولة على مصادر التمويل؟
إذا سلّمنا بدور الدولة في تحفيز الاقتصاد، فمن أين ستحصل على مصادر التمويل؟ هنا تبرز بدائل غير تقليدية تختلف عن السياسات المطروحة في المدارس الاقتصادية السائدة، التي تعتمد غالباً على زيادة الضرائب وتسريح العمالة. فمن الممكن للدولة أن تتحمل مستويات أعلى من العجز في الميزانية بشرط توجيه التمويل نحو القطاعات المنتجة، كما فعلت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ اعتمدت على مزيجٍ من الاقتراض الحكومي وتسهيلات التمويل النقدي، إلى جانب دعم البنوك لتوفير قروضٍ منخفضة التكلفة للشركات، مما ساعدها في إعادة بناء اقتصادها الصناعي.
وعلاوة على ذلك، يُعتبر خفض أسعار الفائدة على الاقتراض من السياسات التي تشجع على الاستثمار والنمو الاقتصادي. فقد حافظ بنك اليابان على معدلات فائدة منخفضة جداً في الخمسينيات، مما ساهم في تحفيز الاقتراض وتوسيع الاستثمارات. وبالمثل، تبنت كوريا الجنوبية سياسة «الإقراض الموجّه» من خلال تقديم قروض بأسعار فائدة منخفضة للمؤسسات الصناعية، مما أدى إلى ازدهار قطاع التصنيع وزيادة الناتج المحلي الإجمالي.
كما لعبَ التوسّع النقدي والتّيسِيرُ الكميّ دوراً مهماً في تحفيز النشاط الاقتصادي 3 بعد الأزمة المالية العالمية في العام (2008). فقد قامت بنوك مركزية في دول مثل الولايات المتحدة واليابان بضخ سيولة إضافية في الأسواق عبر شراء الأصول المالية، بينما استخدمت دول نامية مثل البرازيل وتركيا آليات مشابهة، حيث قدمت البنوك الحكومية تمويلاً ميسراً لقطاعات الزراعة والصناعات التحويلية. إلا أن تطبيق هذه السياسات يستدعي رقابة صارمة على معدلات التضخم، إذ إن ضخ السيولة دون ضوابط يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار أو تكوين فقاعات اقتصادية في بعض القطاعات.
هناك فرصة ذهبية في سوريا، تتمثل في أموال ومساعدات نقدية من الدول في ملف إعادة الإعمار، حيث أن استثمارها وفقَ خطّة اقتصادية متكاملة، يضمن نمو القطاعات المُنتجة ودعم الطلب الفعّال ما قد يُحدث فرقاً كبيراً في مستقبل سوريا الاقتصادي.
دعم القطاع الخاص ودوره
يُمكن للدولة تعزيز دور القطاع الخاص من خلال آلية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهو الأمر الذي تحدّثَ عنه أيضاً وزير الاقتصاد الشعار، وقد تُطبَّق هذه الشراكة في المشاريع التي تتطلب استثمارات ضخمة، مع ضمان دعم الدولة للمخاطر الأولية أو تقديم حوافز مالية مثلاً في مجال البحث العلمي، إذ شهدت اليابان ارتفاع نسبة الإنفاق على البحث والتطوير من حوالي 0.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في الخمسينيات إلى ما يقارب 2 بالمئة في السبعينيات، مما ساهم في تطوير تقنيات متقدمة وتحويلها إلى قوة صناعية عالمية.
لا شك أن الواقع الاقتصادي السوري بالغ التعقيد، إذ يُعاني من مؤسسات أنهكها الفساد، وبنية تحتية متهالكة، واعتماد كبير على الاقتصاد غير الرسمي، إضافة إلى معدلات فقر مرتفعة وانهيار في العملة. لكن، ورغم هذه التحديات، من الضروري النظر إلى تجارب اقتصادية أخرى لدول خرجت من أزمات وحروب والاستفادة منها، لا سيما في ظل الجدل الأكاديمي العالمي حول دور السياسات غير التقليدية في تحفيز النمو الاقتصادي.
هناك توجه متزايد بين بعض الاقتصاديين نحو سياسات تعتمد على تحفيز الطلب المحلي عبر خفض الضّرائب، وتوجيه العجز المالي نحو دعم القطاعات المُنتجة، كوسيلة لدعم النمو الاقتصادي. في بلد كَسوريا، حيث يُشكّلُ الشباب نسبةً كبيرة من السّكان، يُمكن لهذه السياسات أن تُوفر فرصاً اقتصادية جديدة، وتعزز الإنتاج المحلي، مما يُسهم في تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي وتحقيق قدر من الاستقلال الاقتصادي.
لا تقتصر التحديات على الجانب الاقتصادي فقط، بل تشمل أيضاً الحاجة إلى الأمن والاستقرار، وإعادة النازحين، ووضع سياسات تنموية تستهدف الأرياف والمناطق المهمشة تاريخياً. لذا، يقع على عاتق الجهات الحكومية، والأكاديمية، وكذلك المجتمع المدني، أن تلعب الدور الأساسي في تحليل هذه الملفات وتطوير حلول اقتصادية مستدامة تلبي احتياجات الواقع السوري.
* محار البحر علي، خريجة ماجستير تحليل سياسات اقتصادية من جامعة Université Paris 13 Sorbonne Paris Cité و ماجستير تنمية اقتصادية من جامعة Witwatersrand.
مقالات مشابهة