هل يحتمل أن تلج سوريا زمناً من الإرهاب بعد سقوط الحكم الأسدي على نحو ما سبق أن عرفت بلدان أخرى شهدت ثورات وتدشين بدايات جديدة، كبيرة، مثل فرنسا وروسيا؟ فسر هيغل إرهاب الثورة الفرنسية بغلبة المجرد في تفكير قادة الثورة الفرنسية وإرادتهم فرض مبادئهم في مجتمع شهد لتوه سقوط الملكية ونظامها وتقاليدها.
وتفسر حنه آرنت الإرهاب بإدخال المسألة الاجتماعية في سياسات ما بعد الثورات، وهي ترى أن الثورات ينبغي أن تكون سياسية حصراً وغايتها الوحيدة هي الحرية. فإذا أدخلت المسألة الاجتماعية، مثلما حدث في الثورتين الفرنسية والروسية، فرضت السلطات قواعد وإجراءات قسرية واعتمدت الترويع سياسة. وإنما لذلك كانت الثورة الأمريكية هي الثورة الحقيقية، أكثر من الفرنسية، لأن الأولى كانت سياسية حصراً حسب آرنت. الإرهاب الأحمر في الثورة الروسية لم يقض على الأرستقراطية فقط، وإنما على الحياة السياسية في البلد، وعلى السوفييتات قبل الجميع، وهذا لأن المسألة الاجتماعية كانت مركزية عند البلاشفة.
طرح آرنت ليس مقنعاً. هناك معالجات للمسألة الاجتماعية لم تقتض الإرهاب أو تؤدي إليه (ومنها دولة الرفاه المعاصرة(، وهناك إرهاب يمد جذوره في اعتبارات إيديولوجية ودينية وسياسية، غير متصلة بأي معالجات للمسألة الاجتماعية.
نقترح شيئاً أقرب إلى طرح هيغل حول فرض المجرد، لكن مع إضافة عنصر أساسي من فكر آرنت: البداية، الوضع الجديد، الواعد، لكن الذي لا نعرف كيف نتوجه ونفعل فيه، بخاصة حيال ما قد يعرض من مشكلات ومقاومات. وبما أننا نتكلم في شؤون سياسية عملية، أي في مجال الفعل (والكلام حسب آرنت، وهما معاً نشاطان اجتماعيان، فعل بشر على بشر وكلام بشر لبشر) فإن نداء الأفعال، الحسم بالأفعال، بل عبادة الأفعال، تصير شديد الإغراء. والوصلة الهيغلية تتمثل في أن كل الأفكار تبدو مجردة في مواجهة البدايات الجديدة، فليس هناك فكر بدايات، بل وحسب هيغل بالذات الفكر فكر نهايات، وبخاصة الفلسفة التي لا تأتي إلا عند الغسق. ولأن الماركسية اللينينية مذهب مكتمل، أي لا يحتمل الأمر المزيد من الكلام الجديد، فإنه لا يبقى غير التطبيق، وهذا باب لعُبّاد الفعل، «الفعلجيين»، أي للإرهاب.
هناك بداية كبيرة في سوريا، انقطاع لزمن وهياكل وعوائد تكيف معها السويون لسنوات وعقود، وبدء غير متوقع. فهل الإرهاب أمامنا؟ ليس حتماً الآن، بل ربما بعد عام أو عامين، أو في أي وقت؟ حكم الإرهاب لم يبدأ بعد الثورة الفرنسية مباشرة، بل بعدها بأربع سنوات تقريباً، واستمر لنحو عام شهد إعدام الألوف على المقصلة وتصفية قادة ثوريين لبعضهم. تحاول السطور التالية تقليب الأمر على وجوهه.
قبل كل شيء، هناك إرهاب وراءنا. تنحدر هيئة تحرير الشام من تراث السلفية الجهادية العدمي والإرهابي بالفعل، وهي لم تبدأ بأخذ مسافة منه إلا قبل سنوات. الجماعة يصدرون عن «علم كلي» لا يحتمل كلاماً جديداً، ولا يترك مجالاً لغير الفعل المحض. التراث المذكور شديد التجريد، ينحدر إلى مجتمعات المسلمين المعاصرة من أعمال مفكرين وفقهاء ومجاهدين إسلاميين عاشوا حيوات حرجة في أزمنة حرجة، مثل ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب وعبد السلام فرج وغيرهم، على قطيعة مع تقاليد هذه المجتمعات وصور الإسلام التي عاشت بها وتعايشت معها. المنزع الإرهابي متأصل في إرادة فرض هذه المبادئ المجردة بالقوة، في ما يشكل بالفعل عملية أسلمة للمسلمين، تنزع ملكية الإسلام من أيديهم، وتفرض عليهم بدون أخذ وعطاء إسلامها الخاص، المجرد والخارجي والقطعي. تمر عملية نزع ملكية الدين هذه بالتكفير، وهو نوع من البدء من الصفر، إخراج المسلمين من دينهم قبل إدخالهم فيه من جديد، وإبقائهم تحت الرقابة. هذه قطيعة دينية تاريخية تستعيد ما مثّله الإسلام الأول من قطيعة في تاريخ العرب.
ليس كل إرهاب تكفيرياً بطبيعة الحال. هناك إرهاب وطني يستهدف المحتلين، بما في ذلك مدنيّوهم (هو إرهاب لأنه استهداف للمدنيين) وأباح الإرهاب الأحمر دم الأرستقراطيين والرأسماليين عبر تجريم طبقاتهم، وصولاً إلى جنون نزع الكولاك الستاليني (فلاحين ميسورين بعض الشيء). إلا أن كل تكفير إرهابي من حيث أنه يرتب إباحة الدم على الحكم بالكفر.
مشكلة هذه المناحي أن الاعتدال فيها ذاتي، اعتدال أشخاص، وليس اعتدال فكر وعدوله عن التكفير، ولا بالطبع ركوناً إلى الإسلام الاجتماعي المتكيف مع بيئاته
سارت ديناميكية التطور السياسي الديني في أوساط جماعة الهيئة في اتجاه يبتعد عن الجذر التكفيري الإرهابي، وفي مناح اعتدالية بعض الشيء. لكن مشكلة هذه المناحي أن الاعتدال فيها ذاتي، اعتدال أشخاص، وليس اعتدال فكر وعدوله عن التكفير، ولا بالطبع ركوناً إلى الإسلام الاجتماعي المتكيف مع بيئاته المختلفة. وهذا ما يبقيه ضعيفاً أمام المتطرفين حين قد تعرض أزمات كبيرة.
وقد عرضت أزمة كبيرة في الساحل قبل أشهر، ووجهت بعنف فائض، ساحق. عنف إرهابي من حيث أن أكثر ممارسيه يصدرون عن منظومة فكرية مجردة، تتعامل مع جميع غير المسلمين أو غير المسلمين القويمين وفقاً للمعتقد السلفي ككفرة مباحي الدم. وبينما قد يكون مشتطاً القول إن سوريا واقعة تحت حكم الإرهاب اليوم، فإن شبح الإرهاب يظل نشطاً، متربصاً، وله مواطئ أقدام ضمن التشكيل المسيطر الحالي.
وقد يفيد هنا أن نميز بين الإرهاب كأفعال تستهدف مدنيين غافلين، مثل الهجوم الانتحاري على كنيسة مار إلياس في الدويلعة في شهر حزيران الماضي، وبين الإرهاب كمنظومة من الصنف المتجسد في داعش، وهي الشكل الأكثر تجريداً وعدمية اجتماعية وتاريخية من الإرهاب الإسلامي، وكانت هيئة تحرير الشام أقرب لهذا النموذج قبل سنوات. هل قطعت معه جذرياً؟ القطعية الجذرية هي قطيعة مع القطيعة التي أخذت شكل التكفير العدمي منذ سبعينيات القرن العشرين. في هذا الشأن لا يبدو أن جماعة الهيئة مقبلون على القطيعة مع القطيعة التكفيرية، والمشكلة هنا تطال الفكر السياسي الإسلامي ككل، وليس المنحدرين من السلفية الجهادية حصراً. لكن يبدو الجميع شركاء فيما يدره التكفير من فاعلية ترهيبية رادعة.
اليوم، تبدو مخاطر إرهاب منظومي محدودة بفعل السعي المحموم من جماعة الهيئة للاندراج في النظام الإقليمي والدولي، بما يقتضيه ذلك من محاربة الإرهاب، وتحديداً داعش. منطق إعادة الإعمار وتوفير بيئة مناسبة للاستثمارات يتوافق مع منظومة مضادة للإرهاب بالأحرى لا مع إرهاب منظومي. أما الإرهاب كأفعال، بما فيها من قبل أفراد أو مجموعات منضوية ضمن تركيبة السلطة الحالية فيبقى ممكناً، وأمثلته «الفردية» لم تنقطع في الواقع. هنا يكمن التباس تركيبة السلطة الراهنة. فالمعتدون الإرهابيون في أمثلة كثيرة، آخرها وقع في الساحل قبل أيام، هم شركاء في الجذع الفكري التكفيري للهيئة بل من ضمن قواها المنظمة، والهيئة لا توفر أساساً فكرياً مقنعاً لتجريم هذه الأفعال. إدانتها سياسياً وتقرير حرمة دماء السوريين على بعضهم والتحذير من الفتنة، ومن الثأر والانتقام، مثلما فعل المفتي أسامة الرفاعي قبل شهرين، يبدو حديث سياسة، لا يخاطب مسألة التكفير، ولا يقول إن الدين لا يستقيم بالإكراه، وأن الناس كلهم أحرار فيما يعتقدون.
يبقى أن هناك اعتبارا حدثيا يتوافق مع بقاء باب الفعل المحض، الإرهاب، مفتوحاً، وهو يتمثل في إطلاق البدايات، التصرف كأننا حيال بدء مطلق، وأن ما بعد البداية «صفحة بيضاء» مثلما تكلم ماو تسي تونغ عن الصين، ودشن «الثورة الثقافية» التي أودت بملايين الصينيين. البلاشفة فكروا في ثورة أكتوبر كبدء مطلق لتاريخ مغاير. وقادة الثورة الفرنسية كانوا على وعي بعصر جديد، حتى أنهم اخترعوا تقويماً زمنياً عام 1792 واستمر العمل به 12 عاماً (ولبعض الوقت أثناء كومونة باريس 1871). وفي سوريا يفكر العهد الجديد بنفسه كذلك، ويشغل يوم 8/12/2024 موقع البداية المؤسسة. وما جرى من تسريح شامل للموظفين، يدل على إرادة بدء جديد للدولة، من الصفر هو الآخر. ويعطي الإعلان الدستوري للرئاسة الانتقالية موقع البادئ الكلي والمرجع الكلي.
ما غاب عن هذه البداية هو الكلام، النقاش المتكافئ القائم على الحجج. الصفة الهزلية للحوار الوطني في آذار الماضي تكثف موقع الكلام الدال في الزمن السوري الجديد. والكلام هو نصف السياسة، إن رجعنا إلى مفكرة البدايات. نصف السياسة الآخر، الفعل، ينحدر إلى إرهاب في غياب نصفها الأول.
كاتب سوري