يثير موقف النظام التونسي تجاه الإدارة السورية الجديدة، والرئيس أحمد الشرع، تساؤلاتٍ عديدة عن وجاهة الموقف وحيثياته، إذ لم يكلّف الرئيس قيس سعّيد نفسه التواصل مع نظيره السوري بالافتراق عن مواقف غالبية القادة العرب، فلم يرسل برقيةَ تهنئةٍ إلى الشرع، ولا وفوداً دبلوماسية لإجراء محادثاتٍ مع الإدارة السورية، بل لم يخرج من الحكومة التونسية أيّ موقفٍ يعبّر عن دعمها تطلّعات الشعب السوري، ما يعكس نوعاً من الموقف الرافض للتغيير الحاصل في سورية بعد فرار بشّار الأسد.
يطاول السؤال هنا مدى تماشي هذا الموقف مع مصلحة الدولة والشعب التونسيين والعلاقات العربية، ويطاول كذلك العائق الذي يقف حائلاً دون تواصل سعيّد مع الشرع، وعمّا إذا كان يعكس موقفه الأيديولوجي، الذي يضعه في موقف الرافض للتغيير السوري، خشية تأثير نموذجه في سرديته التي استخدمها لتبرير إحكام قبضته على الوضع التونسي.
ما زالت تونس ترفض قبول ما حملته رياح التغيير السوري، لأنها بنت سرديتها على صراعها مع جماعات إسلامية
يبدو أن الموقف التونسي من الإدارة السورية الجديدة يتّسق مع الانقلاب الدستوري الذي قام به سعيّد من خلال الإجراءات الاستثنائية التي فرضها في 25 يوليو/ تموز 2021، وأفضت إلى ضرب الحياة السياسية، وإغلاق البرلمان، والسيطرة على قصر الحكومة، وفرض حالة الطوارئ في البلاد، وما استتبعها مع إجراءات وخطوات. كما يتّسق مع دور العرّاب الأول الذي حاولت الرئاسة التونسية أن تلعبه من أجل إعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية، وعودته إلى الحضن العربي، ويتّسق أيضاً مع الخطوات التطبيعية معه التي بدأتها في 5 يوليو/ تموز 2022، حين التقى وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، بالرئيس التونسي على هامش احتفالات الذكرى 60 لاستقلال الجزائر. وقتها، لم يكتف سعيّد بالطلب من المقداد “نقل تحياته إلى بشّار الأسد”، بل راح يتفاخر بأن “الإنجازات التي حقّقتها سورية، والخطوات التي حقّقها الشعب التونسي ضدّ قوى الظلام والتخلّف، تتكامل مع بعضها لتحقيق الأهداف المشتركة للشعبَين الشقيقَين في سورية وتونس”، في تماهٍ كامل بين سرديتي نظامه ونظام الأسد. وتلا اللقاء إعادة فتح السفارتَين التونسية والسورية في كلّ من دمشق وتونس في 12 إبريل/ نيسان 2023. ثمّ جرى لقاء ودود جداً بين قيس سعيّد وبشّار الأسد في 19 مايو/ أيار 2023 في جدّة، على هامش أعمال القمة العربية، فلم يفوّت سعيّد الفرصة في ذلك الوقت كي يهاجم حركة النهضة، مدّعياً أن “هذا اللقاء التاريخي يعكس علاقات الأشقّاء بين تونس وسورية، بعكس ما ادّعاه بعضهم في وقت من الأوقات، بأنهم أصدقاء سورية، في حين أنهم ساهموا في معاناة الشعب”. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنه عند بداية “ردع العدوان”، العملية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية، أصدرت الخارجية التونسية بياناً في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ندّدت فيه “بشدّة بالهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سورية”، وأعربت عن “تضامنها التام مع الجمهورية العربية السورية”. وبعد فرار بشّار الأسد إلى روسيا (8 ديسمبر/ كانون الأول 2024) بيوم، اضطرت تونس الرسمية إلى إجراء تعديل طفيف على موقفها، فلم تكرّر حديثها عن “هجمات وجماعات إرهابية في سورية”، بل اكتفت بكلام عامّ عن سلامة الأراضي السورية ووحدتها أولوية بالنسبة إليها. تجادل تونس الرسمية بأنها عانت من الجماعات الإسلامية التي تصفها بالمتطرّفة، ولا تزال تعتبر الإدارة السورية جماعةً متطرّفةً استولت على الحكم بالقوة، ولا تنظر في سلوك الإدارة خلال الستّة أشهر الماضية، وما صاحبها من تغييرات كثيرة. إضافة إلى أن الحكومة التونسية تتذرّع بمخاوفها من عودة المقاتلين التوانسة الذين انضمّوا إلى فصائل المعارضة السورية إلى بلادهم، ولا تأخذ في الاعتبار أن الإدارة السورية لن تسمح لهم بتهديد أحد، فضلاً عن أنها بدأت بحلّ مشكلتهم عبر خطّة تقضي بدمجهم في الجيش السوري الجديد، وهو حلّ نال موافقة الولايات المتحدة، ومعها موافقة معظم البلدان التي ينحدر منها المقاتلون الأجانب في سورية. وكان الأجدى بالحكومة التونسية أن تتواصل مع الإدارة السورية بغية البحث عن مخرج مشترك لوضعهم، بوصفهم مواطنين تونسيين، بدلاً من أن تتّخذ إجراءات أحادية من أجل منع عودتهم إلى بلادهم، مع العلم أن غالبيتهم العظمى ليست في وارد العودة إليها. فضلاً عن أن التقارير الحقوقية الدولية تفيد بأن معظم المقاتلين التوانسة في سورية انضموا إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويوجد حالياً القسم الأعظم منهم في سجون قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فيما تُحتجَز عائلاتهم في مخيَّمي “الهول” و”روج”. وهو أمر تصمت عنه الحكومة التونسية.
ترى أنظمة عربية في النموذج السوري خطراً عليها، يقدّم نفسه نموذجاً متصالحاً مع العالم والمجتمع، ويشكّل حافزاً جديداً لتحرّك شعبي ضدّها
مثّل سقوط الأسد السريع ما يشبه الزلزال بالنسبة إلى رصفائه وداعميه، وغيّرت أنظمة عديدة مواقفها من الإدارة السورية الجديدة بعد إسقاطه، بالنظر إلى اعتبارات عديدة، وخصوصاً الرسائل المطمئنة التي أرسلتها دمشق إلى كلّ دول الجوار والعالم، بأنها لن تكون مصدر تهديد لأيّ منها، بل تسعى إلى أن تكون دولةً طبيعيةً، تبني علاقاتها الدولية بناءً على الحوار والتفاهم والمصالح المشتركة، الأمر الذي قابلَته دول الإقليم، ودول الخليج العربي على وجه الخصوص، بقبول ما حمله التغيير السوري، وباحتضان غير مشروط له، وكذلك فعلت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكنّ تونس ما زالت ترفض القبول بما حملته رياح التغيير السوري، بالنظر إلى أن أنظمتها بنت سرديّتها الانقلابية على صراعها مع جماعات إسلامية، وتتّخذ موقفاً يضع كلّ الجماعات الإسلامية في سلّة واحدة. والأهم أن هذه الأنظمة ترى في النموذج السوري خطراً عليها، لأنه يقدّم نفسه نموذجاً متصالحاً مع العالم والمجتمع، الأمر الذي تراه هذه الأنظمة حافزاً جديداً لتحرّك شعبي ضدّها، خصوصاً أنها تشهد تفاقمَ وتيرة الاستياء الشعبي المتراكم ضدّ سياساتها، التي أفضت إلى تدهور الوضع المعيشي لشعوبها، وتفشّي الفساد في مختلف مفاصل حكمها.