من السذاجة أن تبقى مواقفنا عالقة بين التهليل والشماتة في صراع محاور يتنازع على خراب المنطقة. علينا أن نُعيد النقاش إلى جذره الأساسي: من يمثّل شعوب هذه المنطقة؟ من يدافع عن حقّها في الحرّية لا في السلاح؟ في الحياة لا في القصف؟ في الاستقلال لا في التبعية لمحاور متناحرة؟
انتشر في الساعات الأولى لبدء التبادل الصاروخي بين إسرائيل وإيران فيديو من نادٍ ليلي في بيروت: موسيقى صاخبة، إضاءة خافتة، أجساد تتمايل، وفي السماء فوق الرؤوس، كانت صواريخ إيرانية تعبر الأجواء اللبنانية باتّجاه إسرائيل. ازداد تمايل الراقصين وهم يشاهدون المشهد في السماء، وأكملوا احتفالهم بـ”الحياة”.
فيديو آخر من سوريا أظهر ساهرين يدخنون الأرغيلة ويضحكون ويهتفون بينما تمرّ الصواريخ فوقهم. ومشاهد مماثلة انتشرت من أكثر من منطقة.
المشاعر والصور بدت غرائبية: هل نحتفل ونحن على حافّة القيامة؟
هل صار روتين الحروب جزءاً من طقوس الليل؟ وهل اعتدنا فكرة الفناء على مذابح المشاريع الكبرى إلى هذا الحدّ؟
هذه الفيديوهات، ومعها سيل من التعليقات الساخرة لا تُضحك بل تُثير الأسى. فهي تكشف مفارقة قاسية: نحن نفرح بالحرب، أو على الأقل نتصرّف وكأنها مناسبة للبهجة.
انقسم المزاج العربي بين فريق يهلّل لقصف إيران إسرائيل، انتقاماً لغزّة، وتعويضاً عن شعور بالعجز، واستعادة مؤقتة لوهم كرامة بدّدتها غطرسة بنيامين نتانياهو ووحشيته هو وحكومته. وفريق آخر صفّق لضرب إسرائيل طهران، نكايةً بإيران، برمزيتها الميليشيوية الاستبدادية في الداخل، وبما عبثت به في أحشاء العراق وسوريا ولبنان.
وسط هذه الضجّة بين الشماتة والفرح، يغيب السؤال الأكبر: ماذا تعني هذه الحرب للمنطقة؟ ماذا يعني فعلاً أن تنزلق إيران وإسرائيل إلى مواجهة مفتوحة؟
فالهجمات التي تتعرّض لها المنشآت النفطية والصناعية الإيرانية، تنطوي كلّها على مؤشّرات أن بنيامين نتانياهو لن يتوقّف عند حدود تجريد إيران من برنامجها النووي، فإسرائيل تقولها صراحة إنها تسعى إلى إسقاط النظام وفي الحدّ الأدنى حرمانه من قدراته على الدفاع عن نفسه وتهشيم صورته كقوّة لا تُنازع.
فأي مكسب نجنيه نحن في حال انتصر هذا المسار؟ وكيف ستنعكس علينا الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران بعد أن كانت لسنوات حروباً بالوكالة؟
الخطير في المشهد الحالي ليس فقط الصواريخ والدمار والموت والتهديدات المتبادلة، بل في محاولة كلّ طرف تبرير ما لا يُبرَّر. إسرائيل تدّعي الدفاع عن نفسها وعن العالم من سلاح نووي إيراني، وتجد في صمت واشنطن أو دعمها الضمني تفويضاً مفتوحاً لضرب ما تشاء. وإيران تردّ تحت شعار “الردّ على العدوان”، لكنّها في الوقت ذاته تستثمر اللحظة لتؤكّد أنها لاعب إقليمي لا يُستباح من دون ثمن.
حرب السرديّات في لبنان: بين هيمنة حزب الله وإشكاليّة الهويّة الوطنيّة
اليمن ومأساة الاستجابة المؤجّلة: حين تصبح النجاة رهناً بالتمويل
هذه المبارزات، سواء قُدّمت على أنها دفاع عن الأمن القومي أو استعراض لقوّة “إلهية”، ليست معركتنا نحن؛ الشعوب العالقة بين الصواريخ. لا إسرائيل ولا إيران تمثّلان مشروعاً تحرّرياً، كلا النظامين يملك ترسانة من العنف وأرشيفاً من القمع والتدمير، داخلياً وخارجياً، والمفارقة أن كليهما يتحدّث بلغة الدفاع عن القيم والعدالة فيما ينشر الخراب.
نعم، هي لحظة مشحونة، يغيب فيها التقييم الهادئ، فيما تزداد الحاجة إلى تفكيك السرديات القومية أو المذهبية، التي تجعلنا نُهلّل لصاروخ فقط لأنه انطلق من “جهتنا” نحو “عدوّنا”.
المسألة أعقد من سردية، إنها تتعلّق بمصير المنطقة. المزيد من عسكرة المنطقة، المزيد من تحطيم ما تبقّى من الدول الوطنية، والمزيد من تهميش الشعوب.
الحديث عن السلاح النووي الإيراني لا يمكن فصله عن واقع امتلاك إسرائيل ترسانة نووية غير معلنة، ولا تخضع لأي محاسبة. لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل أن النظام الإيراني يسعى لامتلاك السلاح النووي كأداة ترسيخ نفوذ وطموحات إقليمية، لا كوسيلة ردع فقط.
في الحالين، نحن أمام سباق تسلّح نووي تُديره عقلية سلطوية دينية من جهة، وعقلية استيطانية عنصرية من جهة أخرى.
لا فرح في هذا المشهد، لا نصر، لا كرامة حقيقية، لا أفق. فقط وهم بأن هناك من يمثّلنا في هذا الاشتباك، والحقيقة أنه لا أحد يفعل.
من السذاجة أن تبقى مواقفنا عالقة بين التهليل والشماتة في صراع محاور يتنازع على خراب المنطقة. علينا أن نُعيد النقاش إلى جذره الأساسي: من يمثّل شعوب هذه المنطقة؟ من يدافع عن حقّها في الحرّية لا في السلاح؟ في الحياة لا في القصف؟ في الاستقلال لا في التبعية لمحاور متناحرة؟
وإلى أن نجد هذا الصوت، سنبقى نرقص فوق فوّهة البركان، نعدّ الصواريخ ونحسبها على وقع الأغاني.