منذ سقوط نظام الأسد قبل ستة أشهر، تتردد في الأوساط السياسية والاقتصادية السورية فكرة استبدال الليرة السورية، باعتبارها خطوة محتملة في مسار بناء دولة واقتصاد جديدين. في ظاهر الأمر، قد يبدو هذا الطرح منطقياً، خاصة في بلد أنهكته الحرب والانقسام، وفقدت فيه العملة الوطنية جزءاً كبيراً من قيمتها، وانهارت ثقة الناس بمؤسسات الدولة. لكن ما يغيب عن كثيرين أن العملة ليست مجرد رمز سيادي، أو أداة تبادل، أو حتى مظهر من مظاهر الاستقلال الوطني. العملة في جوهرها عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، بل يمكن القول إنها المرآة التي تعكس عمق الثقة بين السلطة والمواطنين.
عادة ما يَختزلُ الناس العملة في شكلها المادي: ورقة نقدية أو قطعة معدنية أو حتى رقم في حساب مصرفي. لكن جوهر العملة يتجاوز المادة إلى المعنى. فقبول الناس لتلك الورقة أو الرقم ينبع من إيمانهم بقدرة الدولة على الوفاء بتعهداتها، وعلى رأسها الحفاظ على قيمة العملة وضمان استقرارها. ما يُميز العملة الوطنية عن أي ورقة مطبوعة أخرى هو أن خلفها سلطة تتعهد للناس بأن هذه الورقة ستحفظ قيمتها، وستكون مقبولة من الجميع، وستعكس قوة الاقتصاد الوطني.
هذا التعهد المتبادل، غير المكتوب لكنه راسخ في وعي كل مواطن، هو ما نسميه «العقد الاجتماعي النقدي». هو أشبه بوعد غير معلن بأن الحكومة ستحمي العملة وتضمن استخدامها الآمن والعادل في كافة المعاملات. من هنا، كلما أخلّت الدولة بهذا الوعد، سواء عبر سياسات نقدية فاشلة أو فساد مالي أو عجز عن فرض سلطتها، تآكلت الثقة وانهارت قيمة العملة.
الثقة ليست قراراً سيادياً يُفرض بمرسوم، بل تُبنى على مدار سنوات من الإدارة الرشيدة، والاستقرار السياسي، والشفافية المالية، والوفاء بالالتزامات. فعندما تلتزم الحكومات بتطبيق سياسات اقتصادية متوازنة، وتوضح للرأي العام كيفية إدارة الموارد، وتعالج قضايا الفساد والهدر المالي، تتعزز الثقة تدريجياً بين المواطنين والدولة.
لقد شهد التاريخ حالات فقدت فيها حتى أقوى الاقتصادات الثقة في عملتها الوطنية، كما حدث في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، حين أدت طباعة كميات هائلة من النقود بعد الحرب العالمية الأولى إلى تضخم مفرط، حتى أصبح الناس يحملون أكياساً من النقود لشراء أبسط الحاجيات، وفقد المارك الألماني قيمته تماماً نتيجة غياب الثقة في العملة. وكذلك في الأرجنتين مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث تسببت الأزمات المالية وسوء الإدارة الاقتصادية وتراكم الديون بانهيار قيمة البيزو، وفقدان المواطنين ثقتهم بعملتهم الوطنية، ما دفعهم للجوء إلى الدولار أو المقايضة في معاملاتهم اليومية. في هذه اللحظات الحرجة، تظهر هشاشة العملة إن لم تكن مسنودة بعقد اجتماعي قوي، يضمن التزام الجميع – حكومةً وشعباً – بالحفاظ على استقرار الاقتصاد الوطني.
في الحالة السورية، يعيش الناس منذ سنوات في ظل تآكل مستمر للثقة، ليس فقط بالعملة، بل بالدولة نفسها. السلطة السياسية منقسمة، والمؤسسات مفككة، والاقتصاد مدمر، وحياة الناس اليومية يطغى عليها الشك والبحث عن الأمان بأي ثمن. في مثل هذا السياق، أي حديث عن استبدال العملة يبدو فاقداً للأساس الذي يمنحه المعنى: الثقة.
استبدال العملة في دول تمر بمراحل انتقالية قد يكون خطوة ضرورية في بعض الأحيان، خاصة إذا كانت العملة القديمة مرتبطة بنظام ساقط أو فقدت قيمتها بالكامل بفعل التضخم والانهيار الاقتصادي. لكن هذا الاستبدال لا يكون مجدياً إلا إذا أُدرِج كجزء من عملية أوسع لإعادة بناء العقد الاجتماعي، وترسيخ الثقة، وإطلاق مشروع اقتصادي وسياسي جديد.
في سوريا اليوم، تغيب معظم هذه الشروط: ليست هناك سلطة مركزية موحدة تحظى باعتراف غالبية المواطنين وولائهم، والمؤسسات المالية في حالة انهيار شبه كامل، والاقتصاد مدمر على ن غير مسبوق. في ظل هذا الواقع، فإن استبدال العملة لن يكون سوى خطوة رمزية بلا أثر حقيقي، بل على العكس قد يؤدي إلى نتائج عكسية خطيرة.
لن يكون سهلاً أن تحظى العملة الجديدة بقبول شعبي ما لم يلمس الناس تغييراً جوهرياً في السياسات والمؤسسات والأوضاع العامة، وسيزداد الطلب على العملات الأجنبية (الدولار، اليورو، الليرة التركية) وعلى الذهب. وربما تظهر عملات محلية في مناطق خارجة عن سيطرة السلطة المركزية، ما يؤدي إلى تجزّؤ الأسواق واتساع الفوضى، ويقوضُ القدرة على إدارة السياسة النقدية. في غياب الثقة والعقد الاجتماعي، لن تصمد العملة الجديدة طويلاً، بل ستتحول إلى رمز جديد للفشل، وتتآكل قيمتها بوتيرة أسرع من العملة القديمة.
التاريخ الاقتصادي الحديث مليء بالأمثلة عن دول حاولت استبدال عملتها، بعضها نجح وبعضها فشل، وكان الفيصلُ دوماً في مدى توفر الثقة بالعقد الاجتماعي. في زيمبابوي، حين انهارت الدولة وعجزت الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها، جرى استبدال العملة الوطنية أكثر من مرة، لكن دون جدوى. تخلى الناس ببساطة عن التعامل بأي عملة تصدرها السلطة، واتجهوا للدولار الأميركي والراند الجنوب إفريقي. لم يُجدِ أي غطاء قانوني، ولم تنجح محاولات الإقناع، لأن العقد الاجتماعي كان قد انهار تماماً. وفي يوغوسلافيا السابقة، أدى الانقسام السياسي والعسكري إلى تعدد السلطات وظهور عملات محلية في الأقاليم، وسرعان ما تحولت العملة الرسمية إلى ورقة لا قيمة لها. فرضت كل منطقة عُملتها، وكل جماعة منطقها، وتبددت كل إمكانية لإدارة اقتصادية موحدة.
في المقابل، شكلت تجربة ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية نموذجاً ناجحاً، حين تم استبدال عملة الرايخ المتهالكة بعملة جديدة، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد توحيد السلطة في مناطق الحلفاء الغربيين، ووضع خطة مارشال لإعادة الإعمار، وتوفير الدعم الدولي والمؤسساتي والسياسي. هنا كان العقد الاجتماعي قائماً على صورة حكومة مركزية قوية، وبرامج اقتصادية واضحة، ودعم خارجي غير محدود. لم يكن المارك الألماني الجديد مجرد ورقة، بل رمزاً لبداية جديدة وثقة متجددة بين الدولة والمجتمع.
ليس الاستبدال النقدي أداة سحرية لحل الأزمات، بل هو في حقيقته نتيجة نهائية لسلسلة طويلة من الإصلاحات السياسية والمؤسساتية والاقتصادية. والخطوة الأولى يجب أن تكون في إعادة بناء العقد الاجتماعي: سلطة شرعية وموحدة، ومؤسسات شفافة وقادرة، وسياسات اقتصادية رشيدة، وضمانات حقيقية لحماية قيمة العملة. فقط عندما يشعر المواطن أن الدولة قادرة على الوفاء بتعهداتها، وتملك الأدوات والموارد للقيام بذلك، تصبح فكرة استبدال العملة قابلة للنقاش ومبنية على أسس واقعية.
وفي هذا السياق، لا بدّ من توعية الرأي العام بحقيقة أن القيمة الحقيقية للعملة ليست في الورق أو التصميم أو التسمية، بل في الثقة المتبادلة بين الناس ودولتهم. وهذه الثقة هي رأس المال الأكبر لأي دولة، وهي الحاجز الأخير أمام الانهيار الشامل.
العملة ليست شعاراً وطنياً ولا قراراً سيادياً يتم اتخاذه بمعزل عن الواقع، بل هي عقد اجتماعي ومقياس للثقة بين المواطن والدولة. في ظل غياب هذا العقد، والانقسام والدمار وانعدام المؤسسات، فإن أي محاولة لاستبدال العملة لن تزيد الوضع إلا تعقيداً. المطلوب اليوم في سوريا ليس استبدال الورق بآخر جديد، بل إعادة بناء الأُسس التي تمنح هذا الورق قيمته الحقيقية: الثقة والاستقرار والوفاء بالالتزامات. هذه هي العملة الحقيقية التي يجب السعي إليها قبل أي مشروع نقدي جديد.
* مسلم عبد طالاس هو اقتصادي سوري وأستاذ جامعي. باحث في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة IDOS في بون، ألمانيا.
مقالات مشابهة