التتويج بالبوكر العربية كان مفاجأة
تناقش رواية “صلاة القلق” للكاتب المصري محمد سمير ندا، الفائزة بجائزة البوكر العربية لهذا لعام، تزييف الحقيقة والتاريخ في أدمغة الناس عبر وسائل بدائية، كجريدة وتمثال وليس جندا وأسلحة. حول هذه الرواية وقضايا ثقافية وأدبية أخرى كان لـ”العرب” هذا الحوار مع الكاتب.
القاهرة – أثار فوز رواية “صلاة القلق” للأديب المصري محمد سمير ندا بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر العربية” في دورتها الأخيرة ردود أفعال عدة، في اتجاهات متباينة، فاحتفى البعض بعودة الجائزة إلى مصر بعد 16 عاما من الغياب، بينما وجه آخرون سهام الانتقاد للرواية قبل قراءتها، استنادًا إلى جملة كُتبت عنها أو فقرة مقتطعة منها، لاسيما في ظل نشرها خارج مصر في دار نشر تونسية، هي دار مسكيلياني.
يكشف محمد سمير ندا في حديثه لـ”العرب” رؤيته حول كل ما ثار من جدل، وتوابع الفوز، من إيجابيات وسلبيات، قائلا إنه رغم حصوله على الجائزة مثل الكاتبين المصريين بهاء طاهر ويوسف زيدان، اللذين نالاها في أول دورتين من المسابقة، إلا أنه لا يعتبر نفسه مثلهما، مضيفا “لا بد أن أتحلى بالعقلانية، فكل منهما له منجزه على مدى سنين طويلة.”
ولا ينفي هذا بالطبع أن لديه طموحا في أن يكون مثلهما بعد عشرين سنة، بل إنه يطمح أن يكتب رواية تعيش وتبقى، مثل “أيام الإنسان السبعة” للكاتب عبدالحكيم قاسم، و”فساد الأمكنة” لصبري موسى، و”جائزة التفرغ” لبدر الديب.
مصر والبوكر العربية
ما تحدثت عنه الرواية هو تزييف الحقيقة في أدمغة الناس، وجعلهم يعيشون في تاريخ زائف عبر وسائل بدائية
ما تحدثت عنه الرواية هو تزييف الحقيقة في أدمغة الناس، وجعلهم يعيشون في تاريخ زائف عبر وسائل بدائية
يعتبر ندا أن أكبر نجاح في الكتابة هو أن تعيش الرواية أكثر من الكاتب نفسه، فنحن الآن نقرأ لكُتاب ماتوا منذ سبعين سنة أو أعمالا مكتوبة من مئة عام. “هذا حلمي.. وأستطيع تقييم نفسي بعد عشرة أو عشرين عامًا لأعرف أين أقف” كما يقول.
أثار البعض تساؤلات حول سبب غياب مصر عن جائزة البوكر العربية لستة عشر عاما وما إذا كانت لذلك دلالات حول الأدب المصري؛ مدارسه وتوجهاته فضلا عن قيمته، ويناقش ندا ذلك بادئا بساؤله “هل عدمت مصر المواهب حتى نغيب عن البوكر هذه المدة؟ هل أدعي أنني أكثر موهبة من الكُتاب المصريين الآخرين؟ إطلاقا.”
ويضيف لـ”العرب” أن المشكلة هي أن دور النشر المصرية لا ترعى المواهب أو تستثمر فيها بالطريقة اللازمة، فالدار تأتي بشخص ليعمل محررا أدبيا على النص مقابل مبلغ ألف جنيه (عشرين دولارا)، ويعمل كرقيب أكثر منه محررا، أما في دار مسكيلياني التونسية، فكان هناك أربعة محررين أدبيين مرت عليهم رواية “صلاة القلق”، وكل منهم يحصل بالطبع على المقابل المادي.
ويشرح دور المحرر الأدبي في النص الروائي قائلا إنه يجعل النص يخرج بأقل قدر من العيوب، مثل “الفلتر”، ولا يكتب الرواية مع الكاتب كما قيل، فهناك من ذكروا أن المحرر الأدبي في دار النشر التونسية كتب الرواية مع ندا، وذلك لأن الكاتب وجه الشكر للمحررين الأدبيين.
يعلق الأديب المصري على ذلك ساخرا “هذا كلام يُضحك الناشر نفسه”، كان يحدث أحيانًا اختلاف في وجهات النظر مع المحرر الأدبي حول أمر ما، فيرجع الكاتب عندئذ إلى الناشر شوقي العنيزي مدير الدار الذي يؤكد له أن “هذه روايتك أنت وتحمل اسمك”، فيتم حسم الأمر حسب وجهة نظر الكاتب بالطبع.
وقد اقترح أحد المحررين مثلًا تغيير اسم الرواية، فرفض ندا بشكل قاطع “على جثتي.. اسم الرواية موجود معها ونابع من داخلها.”
ويرى الأديب المصري الفائز بجائزة البوكر العربية أن دور النشر في مصر تحتاج إلى الاهتمام بشكل أكبر بالتحرير الأدبي، والاعتراف بدوره، والاستثمار في المواهب الحقيقية، معتبرًا أن صعوبة النشر واحدة من أهم مشاكل الوسط الثقافي في مصر، ويشفق على دور النشر المصرية أيضًا في ذلك، لكل منها حوالي خمسمئة عمل في السنة، “لكن هذا يلزمها بأن تكون لديها لجان قراءة دقيقة للغاية قادرة على الفرز والاختيار”.
رفع سقف التحدي
نقد حقبة جمال عبدالناصر لا يعني كرهه
نقد حقبة جمال عبدالناصر لا يعني كرهه
لم يكن محمد سمير ندا متحمسا في البداية لفكرة مدير دار النشر بإرسال رواية “صلاة القلق” للمشاركة في منافسات الجائزة من الأساس، ظنا أنها لا يمكن أن تنافس أو تفوز، ورغبة في عدم تضييع الفرصة على الدار للمشاركة بأعمال أخرى.
وجاء فوز الرواية بالجائزة ليبدل الصورة في ذهن الأديب المصري، الذي اعتبر أن لجنة التحكيم برئاسة الأكاديمية منى بيكر قد قامت بـ”عملية انتحارية عبر منح الجائزة لنص به جرأة كنت أظن أنه لن يجد فرصة بسببها”، فرفعوا سقف الطموح والتحدي عند الكُتاب والناشرين المصريين والعرب، لأن المشكلة لدى هؤلاء الرقابة الذاتية المسبقة ليكونوا في أمان.
وعرِّج ندا على مشاكل النشر الكثيرة في مصر، ومنها طوابير الانتظار الطويلة التي يضطر الكُتاب للوقوف فيها على أمل الحصول على فرصة النشر، ومنها أولئك الذين يسميهم “مصاصو الأحلام”، وهم بعض الناشرين الذين يتاجرون بأحلام البسطاء، لكنه يشدد على أنه لا يعرف أن يتسول النشر، وينصح الكاتب الجديد دائمًا بألا يدفع مالا للدار مقابل نشر عمله، إنما يدعوه إلى الصبر.. “اصبر حتى تجد من يؤمن بك.. وقد وجدته بعد عشر سنوات من الكتابة”.
دور النشر في مصر تحتاج إلى الاهتمام أكثر بالتحرير الأدبي، والاعتراف بدور المحرر والاستثمار في المواهب
تعد رواية “صلاة القلق” العمل الأدبي الثالث للأديب المصري، بعد روايتي “مملكة مليكة” سنة 2016 و”بوح الجدران” الصادرة عن دار إيبيدي المصرية عام 2021.
شعر محمد سمير ندا بعد فوزه بـ”محبة مجانية” أسعدته، نقلها إليه صوت احتفال الناس في القاعة بعد إعلان فوزه بالجائزة، برغم أنها كانت المرة الأولى التي يلتقيهم فيها.
كما ربح “صداقة شخصيات نبيلة” تعرف على أصحابها من الكُتاب الذين وصلوا إلى القائمة القصيرة، ومنهم اللبنانية حنين الصايغ صاحبة رواية “ميثاق النساء” وتيسير خلف الأديب الفلسطيني السوري مؤلف رواية “المسيح الأندلسي”، والكاتبة الإماراتية نادية النجار، التي تعد أول كاتب في تاريخ الجائزة تصل إلى القائمة القصيرة ويحضر المؤتمر الصحافي للفائز برغم عدم فوزه هو، يقول “هي سيدة عظيمة وأنصح بقراءة روايتها الجميلة ‘ملمس الضوء’.”
ولعبت مجموعات القراءة على وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في انتشار رواية “صلاة القلق” في مصر وخارجها، وهو دور يثمنه ندا ويعتز به، معتبرا أن أفضل ما في الوسط الثقافي هم القراء، فهناك قراء لديهم ثقافة نقدية كبيرة برغم أنهم لم يدرسوا النقد الأدبي، وهؤلاء “عملوا زفة (احتفالًا) للرواية” قبل أن تصل إلى الجائزة، ومنهم من كتب على وسائل التواصل قراءات انطباعية عن الرواية ترقى إلى مستوى النقد الاحترافي.
وكان محمد سمير ندا نفسه كثيرا ما يكتب قراءات انطباعية عما يقرأه من أعمال أدبية، ولا يسمي نفسه ناقدا، ويغضب إذا ما تم إطلاق هذا المسمى عليه. لماذا؟ يجيب قائلا “لأن الناقد الأدبي ظل يدرس لسنين كي يكون كذلك، فكيف أنتزع منه اللقب بفعل مقال أو حتى خمسين مقالا كتبتها؟ ما أكتبه أو يكتبه القراء هو قراءات انطباعية، تختلف حسب مدى ثقافة من يكتب.“
لم أقرأ.. ولكن
رواية “بوح الجدران” تناقش مسألة الهجرة الجماعية للمصريين في عقد السبعينات، أي في زمن حكم الرئيس أنور السادات، وتأثير ذلك على الهوية
رواية “بوح الجدران” تناقش مسألة الهجرة الجماعية للمصريين في عقد السبعينات، أي في زمن حكم الرئيس أنور السادات، وتأثير ذلك على الهوية
لا يريد الأديب المصري أو ينتظر أن يكتب القراء فقط أو أصدقاؤه الشخصيون عن الرواية، إنما يتمنى أن يضطلع النقاد بأدوارهم، وهو ما بدأ في الفترة الأخيرة فقط، عندما بدأت الكتابات النقدية تغوص في أعماق “صلاة القلق” وتسعى إلى سبر أغوارها، أما بعد فوزه بالجائزة مباشرة فإنه اضطر إلى الاشتباك مع نقاد هاجموا الرواية قبل أن يقرأوها من الأصل.
وعلق على ذلك الكاتب السوري إسلام أبوشكير ساخرًا بأن “من الأقوال الرائجة حاليا: لم أقرأ رواية (صلاة القلق) ولكن..”، ما أحبط محمد سمير ندا قائلا “ليس لي عداوات مع أحد، وحتى عندما تنشب صراعات ثقافية فإنني أتراجع خطوتين للوراء ولا أشارك فيها”، وما أثار داخله الإحباط والحزن هو “سمع فقال وردد وأعاد ونشر وروج لأفكار، دون أن يقرأ”.
شاعت مقولة أن الرواية تهاجم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فانبرى أحدهم يسب الكاتب بأبيه قبل أن يقرأ الرواية، ما أثار استياء ندا الذي راح يتساءل حول علاقة النقد بالسب، وحول الدور الحقيقي للنقاد في تحليل العمل الأدبي أيا يكن رأيهم في الرواية بعد ذلك، “المهم أن يقرأوا أولا”.
ويضيف محمد سمير ندا لـ”العرب” أن النقاد غضبوا منه عندما قال إنه يعتقد أن النقد في مصر سيكون أكثر جدية وحيادية عندما يشتري الناقد رواية ما بنفسه كي يقرأها ويكتب عنها، لكن عندما ترد للناقد شحنات من الكتب من دور النشر لن يقرأ هذه الأعمال كلها، “ماذا سيقرأ منها؟ وعن أي عمل سيكتب؟ فهل سيكتب عن الأفضل أم الأقرب له؟”.
ويوضح أنه أوصل روايته إلى كل من أراد الحصول عليها من النقاد، ودفع ثمن هذه النسخ لمكتبة “تنمية” بطيب خاطر، لكنه كان يرى والده الكاتب الراحل سمير ندا يقوم بشراء الكتب بنفسه ثم يكتب عما يريد منها.
أثار موقف رواية “صلاة القلق” من الرئيس جمال عبدالناصر جدلا كبيرا، علق عليه الكاتب بأن الرواية فيها انتقاد لتلك الحقبة الزمنية وللمنتفعين ومن تاجروا بحلم العروبة وباسم جمال عبدالناصر نفسه، مثل شخصية خليل الخوجة الذي فعل ذلك واحتمى بتمثال ادعى أنه لعبدالناصر.
ويقول لـ”العرب” إن الشعب المصري لديه الأسبقية في صناعة الصنم، من خلال اعتبار الفرعون نصف إله، وبالتالي فإن مجرد وجود التمثال (في الرواية) صنع له أساطير شعبية. فما تحدثت عنه الرواية هو تزييف الحقيقة في أدمغة الناس، وجعلهم يعيشون في تاريخ زائف عبر وسائل بدائية، وهي جريدة وتمثال وليس جندا وأسلحة، إذ إن قرية “نجع المناسي” التي تدور فيها أحداث الرواية ليست بها بندقية واحدة.
وفي الإجمال، يعتبر ندا أن الاختلاف مع سياسات عبدالناصر لا يعني عدم الوطنية أو مهاجمة مصر، مشيرا إلى أن الأدب المصري بعد هزيمة 1967 خصوصا كان حافلا بالهجوم على شخص جمال عبدالناصر نفسه وليس فقط سياساته، ولم يتم النظر إلى هذا باعتباره عداءً للوطن.
عبدالناصر أم السادات
أكبر نجاح في الكتابة هو أن تعيش الرواية أكثر من الكاتب نفسه
أكبر نجاح في الكتابة هو أن تعيش الرواية أكثر من الكاتب نفسه
اللافت أن رواية “بوح الجدران” لمحمد سمير ندا التي صدرت عام 2021 ناقشت مسألة الهجرة الجماعية للمصريين في عقد السبعينات، أي في زمن حكم الرئيس أنور السادات، وتأثير ذلك على الهوية، وهي الرواية المأخوذة عن سيرة والد الأديب (سمير ندا) وكان كاتبا ناصريا، واضطر إلى الهجرة خارج مصر لأنه دافع عن حرية الفكر، وتم رفض ذلك، فسافر.
وعلقت “العرب” على رواية “بوح الجدران” بأنها لو كانت هي الرواية الفائزة بجائزة البوكر ربما لتم اتهام كاتبها بمهاجمة السادات أيضا.
يوافق ندا على هذا الطرح قائلا “صحيح.. وتخيل أنه كان سيتم اتهامي بذلك بينما أحكي حكاية حقيقية، فالرواية أشبه بالسيرة الغيرية، وثمانين في المئة من أحداثها حقيقي في حياة أبي، وهي تتحدث عن الجيل الذي ولد في الخارج بسبب تلك الظروف مثلي، وأغلب هذا الجيل نشأ بهوية مشروخة قليلا أو مشوهة كالأطفال المبتسرين الذين يدخلون الحضَّانة، وما أفادني أنني كنتُ أعيش في بيت كأنه في مصر، بفضل أبي وأمي، وأغاني عبدالحليم حافظ وأم كلثوم.”
ويختتم الأديب المصري حديثه لـ”العرب” بما قد يبدو مفاجئا، إذ يكشف أنه من منظور الميل والهوى الشخصي فهو ضد السادات، ليس لأسباب سياسية، إنما لأنه السبب في كونه وُلد خارج مصر، واضطرار أبيه إلى السفر والهجرة بعد منعه من الكتابة في أوائل السبعينات، في حين أنه على صعيد المحبة الشخصية يميل إلى عبدالناصر ويحبه، وهذا لا يعني عدم الاختلاف معه.