ليست المشكلة أن نظام طهران يحترق بل أن الاشتعال أصبح نظام حكم ومشروع وجود وعقيدة خلاص
ملخص
منذ 40 عاماً ونيف، والنظام الإيراني يشتعل في الداخل ويشعل الخارج، لا يمكن فصل ما حدث في الأيام الماضية عن الجذور الأولى للحظة التي وصل فيها آية الله الخميني إلى طهران، لقد كانت عودته لحظة قطيعة مع الدولة، ومع التاريخ، ومع المنطق نفسه.
في اعتقادي أن الحريق الذي يشتعل في الشرق الأوسط اليوم ليس سوى تجل متأخر لنار أضرمت عمداً في قلب المفهوم الحديث للدولة، فحين حل رجل دين محل مشروع وطني، وأطيح بمفهوم الدولة الحديثة لصالح سلطة تتوسل الغيب وتحتقر الجغرافيا، بدأ الانفجار الكامن في التكون.
منذ أن وضع آية الله الخميني قدميه في طهران قبل عقود عدة ماضية، كانت المنطقة تدخل طوراً مختلفاً من صراع لم يعد يقاس بموازين السياسة وحدها، بل بمعادلات الطاعة والوصاية والفوضى والتبشير بالخراب، لم تكن الثورة الإيرانية ثورة وطن، بل ثورة على فكرة الوطن، ولذلك فإن ما نعيشه اليوم من تفكك ودمار لا يمكن فصله عن تلك اللحظة المؤسسة التي استبدلت الدولة بـ”الولاية” والشعب بـ”الأمة” والسيادة بـ”الرسالة”.
لقد كان الحريق كامناً، ثم أخذ يتنقل من بلد إلى آخر عبر وكلاء يرفعون شعارات المقاومة، بينما يهدمون بنيان المجتمعات من داخلها، والسلاح الإيراني الذي لا يحمل علماً بل عقيدة، لم يستخدم فقط ضد الخصوم، بل ضد مفهوم الاستقرار نفسه، ولهذا فإن الأحداث المتسارعة اليوم، من تصعيد عسكري غير مسبوق إلى انهيارات سياسية واقتصادية متكررة، ليست طارئة، بل امتداد زمني لفكرة انطلقت منذ أكثر من أربعة عقود ولم تتوقف.
في هذه القراءة التحليلية، نحاول أن نمسك بخيط النار من بدايته، لا من نهاياته المتفجرة، وأن نتتبع كيف أنتجت جمهورية تعرف نفسها باسم الله، واقعاً لا دولة فيه، وحريقاً لم يعد يفرق بين الداخل والخارج.
لم تكن الضربات الإسرائيلية غير المسبوقة على العمق الإيراني، التي بدأت في الـ13 من يونيو (حزيران) 2025، مجرد رد فعل عسكري على مسيرات عبرت الحدود في جنح الليل في وقت ماض العام الماضي، ما حدث كان أبعد من ذلك، لأنه يكشف عن خريطة شائكة ومعقدة من الحريق الذي بدأ قبل أكثر من أربعة عقود، ولم يتوقف.
قتل قادة الصف الأول في الحرس الثوري الإيراني، وكبار العقول النووية المفكرة في البرنامج النووي، وكبار قادة سلاح الجو وسلاح المسيرات والدفاع الجوي في الحرس الثوري، وسجل ذلك باعتباره لحظة حاسمة في المواجهة المفتوحة بين تل أبيب وطهران، لكنها في الجوهر لحظة انكشاف لمشروع كامل بني من البداية على نقض الدولة وتكريس الفوضى باسم “الحق الإلهي”.
لنتذكر أنه في عام 1979 عاد رجل يرتدي عمامة سوداء من منفاه الباريسي لطهران التي كانت تحت حكم ملكي، وإن شابه فساد، أقرب إلى نظام غير متطرف يتطلع إلى الحداثة، كانت فترة ستينيات وسبعينيات القرن الـ20 فترة انتعاش اقتصادي إيراني غير عادي إثر إصلاحات زراعية قام بها شاه إيران.
لم يكن الخميني الشهير بعمامته السوداء عائداً باسم الشعب أو الدولة، بل كان يطل بوصفه تجلياً لفكرة فوق زمنية ميتافيزيقية، لا ترى في الاجتماع المدني سوى عائق أمام سلطتها الثيوقراطية المطلقة.
باسم الله، أطاح الرجل بكل المعايير التي حاولت إيران أن تبني بها دولتها، وأسس نظاماً لا يرى السياسة إلا امتداداً للفقه المتطرف، ولا يرى الحدود إلا مرحلة موقتة في مسار التمدد العقائدي، ومنذ تلك اللحظة بدأت طهران في تصدير الثورة كما لو أنها تصدر احتراقها الداخلي.
لم يكن الخارج، بالنسبة إلى النظام الجديد، سوى مجال مفتوح لإعادة صياغته على صورته، ولهذا أنشأ ما يعرف بـ”محور المقاومة”، شبكة من الوكلاء المتطرفين في لبنان والعراق وسوريا واليمن وغزة، تتجاوز الجغرافيا والسيادة والهوية لصالح ولاء يتجه رأساً نحو “الولي الفقيه”.
مع تصعيد ترمب… ماكرون يخشى فوضى تغيير النظام في إيران
لا شيء في هذا المحور يحمل مشروع دولة، بل كل ما فيه يقوم على تقويض مؤسساتها، وخلق بدائل طائفية تحكم باسم العقيدة وتنتج اللا دولة بوصفها حالة دائمة، والنتيجة منطقة لم تعرف الاستقرار منذ ذلك التاريخ، وحرائق لا تتوقف.
في اليمن، كانت الصورة أكثر عرياً، فقد أفرز هذا المشروع نسخة أكثر تطرفاً في هيئة ميليشيات دينية سلالية مسلحة تنقلب على الدولة، وتعيد تعريف السياسة بمنطق السلاح المغلف بخطاب مقدس، ويحكمها رجل لا يراه أحد، ولا يرى أحداً غير نفسه بوصفه من نطفة مقدسة.
وقد قلت في تصريح نشر في ديسمبر (كانون الثاني) 2024 في وسائل إعلام يمنية إن “ما تقوم به الميليشيات الحوثية هو جعل اليمن منطقة حريق لا تنطفئ، حريق يستمر بلا نهاية، وهدفها بلا شك استمرار اللا وضع الذي يدفع إلى بقائها تتصدر واجهة المشهد السياسي على حساب مصلحة الشعب اليمني، ويحول دون الوصول إلى حل سياسي شامل وعادل ومستدام”.
وفي هذا التوصيف، لا يتضح فقط الدور التخريبي للميليشيات بوصفها ذراعاً إيرانية، بل تجسد فلسفة المشروع الأم التي لا تعترف بالحلول، لأنها تستمد وجودها من الفوضى، وتعيش على أطراف الحريق.
إن طبيعة النظام الإيراني، كما تكشفت على مدى العقود الأربعة الماضية، لا تسمح له بأن يكون جزءاً من نظام دولي قائم على التوازن والمصالح، لأنه ينطلق من عقيدة تتغذى على الكراهية والتمدد والتضحية بالجغرافيا والدماء.
لم يكن سعيه إلى حيازة السلاح النووي إلا امتداداً لنزعته المتطرفة لفرض الهيمنة، ليس على أعدائه فحسب، بل على من يعتبرهم “غير منتمين” إلى رؤيته المذهبية للعالم، ولهذا فإن ما نراه اليوم من تصعيد غير مسبوق، ومن صراع مفتوح بين إيران وإسرائيل، ليس إلا لحظة من لحظات هذا الحريق الذي لن يخمد، كما قالت “نيويورك تايمز”، “حتى يجري القضاء على منفذ الحريق”، وهي عبارة كثيفة تختزل تاريخاً طويلاً من التسلل باسم القضية، ومن القتال باسم المقاومة، ومن تقويض المجتمعات من داخلها تحت راية الخلاص الإلهي.
كتبت في نهاية العام الماضي، في مقالة رصدت فيها مشهد الاختلال، أن إعادة تشكيل توازن القوى في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون إلا بالحسم مع الميليشيات التي لا تفهم إلا لغة السلاح، ولا تؤمن بمنطق الحوار، ولعل ما نشهده اليوم يقدم البرهان العملي على أن هذا المشروع الذي يحكم من طهران، لا يسعى إلى أن يكون جزءاً من الحل، بل صانعاً دائماً للأزمة، لا يريد طاولة حوار بل ساحة معركة، ولا يؤمن بالدولة بل بالوصاية.
منذ 40 عاماً ونيف، والنظام الإيراني يشتعل في الداخل ويشعل الخارج، لا يمكن فصل ما حدث في الأيام الماضية عن الجذور الأولى للحظة التي وصل فيها الخميني إلى طهران، لقد كانت عودته لحظة قطيعة مع الدولة، ومع التاريخ، ومع المنطق نفسه، والخطر الذي نواجهه اليوم ليس في قوة إيران، بل في ضعف العالم عن تسمية الأشياء بأسمائها، لقد ظن الخميني، في وهمه، أنه يحكم باسم الله، لكنه كان يفتح أبواب الجحيم.
في نهاية المطاف ليست المشكلة أن نظام إيران يحترق، بل أن الحريق صار نظام حكم، ومشروع وجود، وعقيدة خلاص، وعند هذه العتبة، لا يكون السؤال كيف نطفئ النار؟ بل كيف نسمي الأشياء بأسمائها؟ لنفهم أن من يقدم نفسه باسم الله قد لا يريد أكثر من جر العالم كله إلى الجحيم.