ملخص
أمام هذا تبدو النخب العربية والمغاربية متأثرة بثقافة الرحل غير قادرة على التحرر منها، حتى لتبدو وكأنها تطوي خيمتها وتمضي لتنصبها في مكان آخر، في شارع آخر، تبدو وكأنها تبول على ما بقي من جمر متقد في رماد الأثافي وتمضي لتشعل ناراً أخرى في شارع آخر.
هل ثقافتنا “المدينية” المعاصرة هي ثقافة عقلية “البدو الرحل”؟ مع احترامي العميق لخصوصية ثقافة البدو الرحل العريقة حين تكون منسجمة مع جغرافيتها وزمنها ووسائل إنتاجها وعبقرتيها الإبداعية.
لماذا علينا أن نكتب كتباً كثيرة عن الريف والصحراء والبادية؟
بكل بساطة لأن الريفي هو أصل تشكيل مخيال مجتمعاتنا المعاصرة بنخبها الثقافية والسياسية والعلمية والفنية والاجتماعية، ولا يزال العقل الريفي المترحل مهيمناً حتى على الجيل الجديد الذي ولد داخل المدينة الهجينة، وتربى بين أحضان ثقافة التكنولوجيا والسمعي البصري.
إن كتابة عالم الريف بدقة وصدق يمنحنا مؤشراً إيجاباً لقراءة جادة للمدينة، فمن دون فهم تفاصيل القرية الريفية بذاكرتها المتينة والمشروخة لا يمكن فهم القلق الحضاري الهجين الذي تعيشه مدننا.
إن الطريق إلى فهم البدوي فهماً صحيحاً هو الطريق السالك المؤدي إلى تفكيك مغاليق هجنة المديني، هو الطريق الذي يجعلنا قادرين على فهم الأعطاب السيكولوجية والثقافية والسياسية والدينية والأخلاقية التي يعيش فوضاها المجتمع، بنخبه وعامته.
أن يظل الريف يندثر، يتشوه ويتوسع من خلال بنايات قبيحة وفي غياب نصوص شاهدة، هو تركه عارياً للنسيان والتزييف.
كي ينعم المجتمع برمته، في الريف كما في المدينة، بالتوازن الحضاري لا بد من إعادة الاعتبار إلى الكتابة المونوغرافية حتى يكون الفهم صادقاً وعاقلاً بعيداً من النوستالجيا أو التزوير.
حين نكتب قواميس لغوية دقيقة وعلمية للغة البادية، في تنوعها، من طريقة النطق فيها، فإننا نؤسس لفهم لغات العالم من حولنا.
حين نكتب بصدق الموسيقى والغناء الممارسين في الريف بقراها ومداشره، بكل ما فيه من عبقرية شعبية، ونقف عند الآلات التي تستعمل في ذلك، والألبسة التي تلبس لذلك، نكون قد حافظنا على خصوصيتنا الفنية، ونكون قادرين على تصدير ثقافتنا وقادرين خلال الوقت نفسه على استضافة ثقافات الآخر وقبولها.
الكاتب ذئب منفرد
هل تسعف اليابان حال القراءة في الجزائر؟
المثقف العربي كائن “نوستالجي”!
أين اختفى جمهور أم كلثوم؟
حين نكتب منظومة الحرف التقليدية في القرية، بعضها انقرض وبعضها شوه وبعضها لا يزال يقاوم، فإننا نكتب تاريخ الأنامل التي تبدع، نكتب العبقرية الحرفية والتدبير الجمعي.
حين نكتب أنطولوجيا خاصة بمبدعي قرية ما، من الروائيين والشعراء والمؤرخين والسينمائيين والمسرحيين، المقيمين منهم والذي هاجروا، الأحياء منهم والذين قضوا، فإننا نكتب جزءاً من تاريخ سوسيولوجيا النخب التي تدير رأسمال الخيال المشترك الريفي والمديني على حد سواء.
حين نسجل قائمة الأسماء التي تمنح للمواليد الذكور والإناث من أبناء الريف القديم، والتي كانت سائدة إلى زمن غير بعيد، أسماء تقليدية جميلة متناغمة مع الحس الريفي المتميز، قبل أن تزحف المسلسلات التركية والمصرية والسورية لتقلب لائحة أسماء الحال المدنية رأساً على عقب، فإننا بذلك نكتب انهيار الذوق الجمالي.
حين نكتب تاريخ البساتين والغابات التي تحيط بالقرى، بأنواع أشجارها المثمرة وغير المثمرة، والتي دمر كثير منها، وحولت الأرض التي جُرفت أشجارها الطبيعية إلى غابة من الأسمنت المسلح، حيث أقيمت عليها مشاريع سكنية فوضوية متوحشة، فإننا بهذا نكتب المستقبل الذي يهدد الأجيال القادمة.
حين نكتب عن حيوانات القرية، الأليفة منها والمتوحشة، الحمار والبغل والحصان والبقرة والكلب والأرنب والقنفذ والمعز والذئب والثعلب والدجاج والحجل والبط والغزالة والنمل والذباب والنحل وغيرها، والتي بعضها انقرض وبعضها أهمل وبعضها دجن، الكتابة عن هذا العالم الذي يشكل الحياة المشتركة بين الإنسان وهذه الكائنات، تمنحنا مناعة وتذكرنا بإنسانيتنا وتوازننا الطبيعي.
حين نكتب عن ثقافة نظام توزيع الماء في القرى والمساكن المعزولة، وكيف كان الناس يعيشون بنظافة وقناعة وكفاية على ندرة هذا الذهب الأزرق، فإننا نكتب فصلاً في طريقة تعاملنا الذكي مع الماء اليوم، في ظل حروب شرسة وضارية تجري بين البلدان حول هذه الثروة التي هي أغلى من الذهب والبترول.
حين نكتب عن المسجد الصغير في القرية، من طريقة بنائه، عن بساطته، عن احترام الجميع لقدسيته، عن شكل عمارته، عن الإمام الفلاح الذي يؤم الناس وهو عائد مباشرة من الحصاد أو الحرث، فإننا نكتب عن معنى العلاقة الصادقة بالدين بعيداً من التجارة السياسية والنفاق الاجتماعي والعنف وكراهية الآخر التي راجت خلال زمننا الهجين هذا.
حين نكتب عن فلسفة الضيافة عند أهل الريف، كيف يعامل المقيم ضيفه، فإننا نكتب فصلاً في تشكيل العقل العاقل والعقل العاطفي والعقل المسائل في مجتمعنا الراهن.
ضاع الخيط الأبيض من الأسود!
اليوم حولت النخب المدينة إلى فضاء حضاري هجين، لأنها لم تتمكن من التحرر من العقل الريفي المرتحل، فضاع الخيط الأبيض من الأسود!
إن غالبية كتابنا وأدبائنا ينتمون، ولو بدرجات متفاوتة، إلى عالم الريف، أي إلى بنية ثقافة الريف والمداشر والقرى الصغيرة، أما المدينة كفضاء سوسيو ثقافي فتعد طارئة عليهم وفتحاً جديداً بالنسبة إليهم.
في لا وعي الكاتب العربي والشمال أفريقي تشكل القرية صورة الحنين إلى الطفولة، حنين يطرد الملامح الحقيقية للصورة ويغلفها بغلالة من المثالية، حتى لتبدو القرية روضة من رياض الجنة، مع أنها في الواقع فضاء للفقر والبؤس والجهل والعزلة، ولأنها كذلك ينقلها إلى شوارع المدن وإلى الساحات العمومية وإلى المقاهي ومصاعد العمارات.
إن السردية الروائية التي كثيراً ما تناولت صورة القرية أو الريف المهمش، منبت الكاتب في غالب الأحيان، هي سردية مخادعة، فالفلاح المقهور المضطهد يبدو فيها بطلاً يشبه دون كيشوت وهو يحارب طواحين الفقر ببطولة خارقة تشبه حكايات الجدات، ويبدو كائناً سعيداً في حياة ريفية تشبه الجحيم، فصول من القحط واليباب تختفي بقدرة قادر خلف جوقة “زقزقات العصافير”، كل ذلك لتبرير نقل الريف إلى المدينة التي تبدو فضاء مستعصياً ومركباً ومستفزاً!
الأدباء الذين دخلوا المدن في عمر متأخر، وهذا شأن غالبية كتاب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ظلوا على علاقة سيكولوجية لا واعية بالمكان الريفي وبالسلوك الريفي، وحين انتقلوا إلى الكتابة عن المدينة كتبوها من الخارج لأنهم لم يتمكنوا من التحرر من سلطة “السيكولوجيا الريفية الباطنية”، التي تمثل الحبل السري الذي يربطهم بعالم القرية أو الدشرة، فبدت المدينة فضاء عنيفاً ومن دون روح، وبدا البطل الروائي الذي هو الكاتب في غالب الأحيان لا هم له سوى الجري وهماً خلف النساء الجميلات، وهو في مثل هذه العملية يربط بصورة غير واعية ما بين قراءاته عن المدينة الأوروبية وواقع المدينة العربية أو المغاربية الهجينة، وفي مرات أخرى يعرض علينا بطولته السياسية الخارقة فيبدو ذلك الشخص الذي يحلم بتغيير العالم رأساً على عقب، وجراء ذلك تلاحقه الشرطة ورجال الأمن من الصباح إلى المساء في شوارع مدينة لا توجد إلا في رأسه، وفي كل الحالات فتلك البطولة تقدم مسلحة بخطاب ثوري يساري طفولي، حتى لتبدو هذه الكتابة مسكونة بحس مراهق، سياسياً وعاطفياً.
إن مدننا الكبرى أين تتجمع الأنتيليجانسيا الإبداعية وتعيش، تعرف ظاهرة غريبة أيام عطل الأعياد (وبخاصة عيد الفطر وعيد الأضحى)، إذ تتحول إلى مدن أشباح بشوارع فارغة، وهي المدن التي تعرف خلال الأيام العادية وعلى مدى أيام الأسبوع من السادسة صباحاً إلى منتصف الليل، ازدحاماً مجنوناً وحركة سير رهيبة لا تنقطع، والسبب في ذلك هو مغادرة سكان المدينة شققهم وبيوتهم ليعودوا إلى الجغرافيا الحضارية البدوية الريفية التي جاؤوا منها لواجب الحفل، فالاحتفال لا يحقق سعادته إلا في القرية كفضاء يسكن الروح.
إن الأماكن التي نعيش فيها ليست قطعة أرض عارية من المعنى إنها قطعة من حياة فيها الوقت معجون بالدمع واللغة والريح وسقوط المطر.
أمام هذا تبدو النخب العربية والمغاربية متأثرة بثقافة الرحل غير قادرة على التحرر منها، حتى لتبدو وكأنها تطوي خيمتها وتمضي لتنصبها في مكان آخر، في شارع آخر، تبدو وكأنها تبول على ما بقي من جمر متقد في رماد الأثافي وتمضي لتشعل ناراً أخرى في شارع آخر.
نعم، مكتباتنا فقيرة في باب التأريخ للمكان، لأن الراحل فينا أكبر وأعمق من المديني.