كانت فارس إمبراطوريّة في زمن السلالات الأخمينية والبارثية والساسانية بين عامَي 550 قبل الميلاد و651 ميلادي، أي على مدى أكثر من ألف سنة. قاتل الفرس اليونانيين والرومان في الغرب كما قاتلوا الشعوب التركية في الشمال والشعوب الأفغانية والهندية في الشرق، وكان العراق والشام ومصر من أهداف حملات الساسانيين عندما قاتلوا البيزنطيين عدّة سنوات قبل ظهور الإسلام وبعده. لكنّ إيران، ومعها أفغانستان في العصر الحديث، كانت حرفيّاً “دولة الحاجز” buffer state، في البداية بين الإمبراطوريّتين الروسيّة والبريطانية، في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فروسيا كانت تتمدّد جنوباً بهدف الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج، وبريطانيا التي تحتلّ شبه القارّة الهنديّة كانت تتمدّد في أفغانستان وإيران كإجراء وقائي.
غزا الاتّحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى إيران خلال الحرب العالمية الثانية منعاً لدخول الجيش النازي الألماني إليها. ومع انتهاء الحرب العالمية، وبدء الحرب الباردة بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفيتي بين عامَي 1947 و1991، تابعت إيران دورها كدولة حاجز بين القوّتين العظميَين، إضافة إلى دور “شرطيّ الخليج”، إلى أن سقط الشاه، ثمّ اندحر الاتّحاد السوفيتي، فبدأت الجمهورية الإسلامية تتلمّس طريقها. فشعار “لا شرقية ولا غربية”، الذي هو من تراث الدولة-الحاجز، اندثر تدريجيّاً، ومعه الدور القديم. وعادت النزعة الإمبراطوريّة من اللحظة الأولى لانتصار الثورة، لكن بأسلوب مختلف وأدوات مختلفة، تحت عنوان تصدير الثورة.
كان العراق المجاور هو الهدف الأوّل. لكن لم يتحقّق هذا بجهود ذاتيّة إيرانية، بل بجهود “الشيطان الأكبر” الولايات المتّحدة، التي أسقطت خصمين عنيدين لإيران على التوالي: حركة طالبان في أفغانستان شرقاً عام 2001، وحكم صدّام حسين في العراق غرباً عام 2003. وهكذا نشأت “استراتيجية الأذرع الطويلة”، من خلال مسارين: أوّلاً، الجماعات الشيعية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والجماعات السنّية الموالية لإيران في فلسطين، وثانياً، الصواريخ البالستية بمدياتها المختلفة وصولاً إلى 2,800 كلم. هل كانت إيران بحاجة إلى الأذرع الطويلة لحماية أمنها القومي، أم للتوسّع الجغرافي والسياسي والمذهبي بأقلّ كلفة وخطر؟
يتميّز الموقع الجغرافي لإيران بمزيج من المواقع الاتّصاليّة، والعازلة، والجيوسياسية، والجيوقتصادية، والجيوستراتيجية
قلعة حصينة وعقدة مواصلات
في عام 2008، صدرت دراسة مهمّة لجورج فريدمان مؤسّس موقع “ستراتفور” STRATFOR، بعنوان: “جيوبوليتيك إيران: الإمساك بمركز قلعة جبليّة”،
The Geopolitics of Iran: Holding the Center of a Mountain Fortress، وفيها وصفٌ لجغرافيا إيران التي تجعل منها منطقة صعبة وعصيّة على الغزو الخارجي، وهو ما جنّبها الوقوع تحت الاحتلال الأوروبي المباشر. ومن مميّزاتها المساحة الكبيرة: أكثر من مليون و600 ألف كلم مربّع، وهي أكبر من فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال مجتمعة. وهي أكبر من العراق بأربع مرّات، ومن أفغانستان بأكثر من الضعف. ولديها العدد السكّاني الكبير: أكثر من 90 مليون نسمة. أمّا الأهمّ من ذلك، فهو دور الجبال في حماية حدودها، وفي احتضان مدنها.
طوبوغرافيّاً، تفصل الجبال بين إيران وتركيا. وفي حدودها مع العراق، تقع سلسلة جبال زاغروس وراء الحدود ببضعة كيلومترات، وأمامها السهل العراقي المنبسط. هذه السلسلة امتداد من الشمال الغربي حيث تركيا وأرمينيا إلى الجنوب الشرقي وصولاً إلى بندر عبّاس. وفي أقصى الجنوب في شطّ العرب، تقع المستنقعات بين إيران والعراق حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات. وعلى هذا، فإنّ الحدود الغربية لإيران محميّة بالجبال والمستنقعات. وقد عانى الجيش العراقي في حربه على إيران (1980-1988) بسبب الجغرافيا المعقّدة.
حدودها الجنوبية تُشاطئ الخليج، وأهمّ موقع فيها هو بندر عبّاس على مضيق هرمز، الممرّ الحيويّ لتجارة النفط العالمية. وفي الشمال، تنتصب سلسلة جبال ألبرز على طول الضفّة الجنوبية لبحر قزوين، وإلى الحدود الأفغانية والباكستانية حيث تنخفض الجبال تدريجياً. وتقف هذه الجبال حاجزاً أمام صحراء كراكوم في تركمانستان المجاورة. يتكوّن وسط إيران من هضبتين صحراويّتَين شبه مهجورتين وغير صالحتين للسكن. وهما دشت كوير، التي تمتدّ من قم في الشمال الغربي تقريباً إلى الحدود الأفغانية، ودشت لوط التي تمتدّ جنوباً إلى بلوشستان، وهي من أكبر الصحاري في آسيا الوسطى.
تتكوّن دشت كوير من طبقة من الملح تغطّي طيناً سميكاً، ومن السهل اختراق طبقة الملح والغرق في الطين. إنّها واحدة من أكثر الأماكن بؤساً على وجه الأرض. يتركّز سكّان إيران في جبالها، وليس في أراضيها المنخفضة، كما هو الحال في الدول الأخرى. وذلك لأنّ أراضيها المنخفضة، باستثناء الجنوب الغربي والجنوب الشرقي (المناطق التي يسكنها غير الفرس)، غير صالحة للسكن. إيران دولة من سكّان الجبال. حتّى أكبر مدنها، طهران، تقع في سفوح الجبال الشاهقة. وهذا التركّز الفارسي في الهضاب الحصينة، هو ما يسهّل الدفاع عن الدولة والهيمنة على الأطراف في المناطق المنخفضة.
تمثّل الحدود الإيرانية الحاليّة خطوط الانسحاب للإمبراطورية الفارسية إلى مناطق آمنة طبيعياً، لكنّها كما أنّها قلعة حصينة، إلّا أنّها تُعيق أيّ توسّع برّي ما عدا منطقة واحدة هي العراق
الخطأ القاتل
بحسب الباحث الإيراني سيروس أحمدي نهاداني، كان موقع إيران جزءاً من الاستراتيجيّات الإقليمية والعالمية في النظريّات الجيوسياسية. واليوم، توجد بعض المناطق الجغرافيّة ذات الأهميّة السياسية، وهي ساحة للتنافس المحلّي والإقليمي والعالمي. المناطق الجيوسياسية المحيطة بإيران هي كما يلي:
آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز في الشمال.
شبه القارّة الهندية وأفغانستان في الشرق.
المحيط الهندي في الجنوب الشرقي.
الخليج وبحر عُمان في الجنوب.
تركيا والمنطقة العربية في غرب إيران.
يتميّز الموقع الجغرافي لإيران بمزيج من المواقع الاتّصاليّة، والعازلة، والجيوسياسية، والجيوقتصادية، والجيوستراتيجية. وقد ساهم هذا المزيج من المواقع في خلق وضع فريد لإيران. من ناحية، يمكن أن يكون ضماناً للاستقرار والتنمية الاقتصادية، ومن ناحية أخرى يمكن أن يؤدّي إلى عدم الاستقرار وانعدام الأمن وفقدان الفرص والقدرات.
إقرأ أيضاً: ساعة الرمل الإيرانية – الإسرائيلية التي تقلق أنقرة!
بالإجمال، تمثّل الحدود الإيرانية الحاليّة خطوط الانسحاب للإمبراطورية الفارسية إلى مناطق آمنة طبيعياً، لكنّها كما أنّها قلعة حصينة، إلّا أنّها تُعيق أيّ توسّع برّي ما عدا منطقة واحدة هي العراق. وجيوبوليتيكا القلعة هي التي ألهمت الإيرانيّين ابتكار الأذرع الطويلة. لكن مع تدمير هذه الأذرع أو إخراجها من الفعّاليّة السابقة، تعود إيران إلى دورها القديم، كدولة-حاجز، لكن بهدف مختلف. وهذا ما يعرقل فكرة تغيير النظام الحالي، لا سيما إذا تحوّلت إيران إلى منطقة فراغ، أو منطقة فوضى وحروب أهلية. فإيران لا تحجز حاليّاً بين دول عظمى مثلاً بين الصين والولايات المتّحدة، بل يمكن أن تكون ممرّاً مهمّاً لتجارة الصين المزدهرة باتّجاه أوروبا، أو طريق الحرير.
إنّما باتت عمليّاً دولة حاجزة بين تركيا وباكستان وأفغانستان، ومن دونها تكتمل الدائرة التركيّة وتتّسع. فهي كدولة مختلفة مذهبياً لم تكن تثير القلق في الغرب، ولها فوائد استراتيجيّة. كان الخطأ القاتل لإيران تمدّدها إلى فلسطين، بغياب خطّة مفيدة غير إرسال الصواريخ، والقتال بالتنقيط كلّ بضع سنوات.