نار تشرين لم تخمد بعد
توجد أسباب موضوعية لقلق القوى الشيعية القائدة لتجربة الحكم الحالية في العراق من الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران الحليفة لتلك القوى والتي سبق أن ساعدتها على تجاوز العديد من الهزّات والاستمرار في الحكم، لكنّها باتت اليوم، بفعل انشغالها بالحرب وانصرافها لحماية نظامها من السقوط، عاجزة عن الاستمرار في ذلك الدور تاركة حلفاءها العراقيين رهن مزاج الشارع وغضبه المحتمل.
بغداد – تسود الطبقة الحاكمة في العراق والمنتمية بشكل رئيسي لأحزاب وفصائل شيعية تربطها علاقات وطيدة بإيران حالة من القلق بسبب التوتّر القائم في المنطقة جرّاء الحرب الدائرة بين الجمهورية الإسلامية وإسرائيل وإمكانية انتقال تأثيراتها إلى الداخل العراقي حيث تسود منذ سنوات حالة من عدم الرضا الشعبي على تجربة الحكم بقيادة تلك الأحزاب والفصائل ذاتها.
ويخشى القائمون على شؤون النظام العراقي من أن يشجّع ضعف إيران وانشغالها بالحرب، وربما سقوط نظامها في أقصى الحالات، على اندلاع ثورة شعبية عارمة بوجه تلك القوى التي جاءت أصلا إلى الحكم بدعم من طهران واستمرت فيه أيضا بمساندتها خلال فترات الهدوء والاستقرار، كما في فترات التصعيد والتوتّر على غرار ما حدث في انتفاضة أكتوبر الشعبية عندما نزل الإيرانيون بخبرتهم الأمنية لمساعدة الميليشيات الشيعية على قمع المنتفضين بشدّة وعنف من خلال التصدي لهم في الشارع وتعقّب قادتهم ومنظريهم وتصفيتهم جسديا بعد أن بلغت احتجاجاتهم مدى غير مسبوق مشكّلة تهديدا جديا لاستقرار النظام واستمراره.
ولا ترغب القوى القائدة للنظام العراقي في رؤية سيناريو الانتفاضة يتكرّر في ظل أوضاع إقليمية مشحونة بالحرب والتوتّر، خصوصا وأن بعض الدعوات للتظاهر بدأت تروّج بالفعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وحذّر رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان من محاولات زعزعة الجبهة الداخلية في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة، مؤكدا أن من يروّج لهذا الخطاب سيخضع للمحاسبة القانونية.
وجاء ذلك خلال اجتماع مشترك استضافه المجلس، الخميس، بمشاركة وزير الداخلية ورؤساء الأجهزة الأمنية وهيئة الإعلام والاتصالات ونقابة الصحافيين، لمناقشة “الظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة.” ووفقا لبيان صدر عن مجلس القضاء الأعلى، قال زيدان خلال الاجتماع إن “أمن العراق وسيادته يعدان أولوية للمجتمع،” مشددا على أن “المساس بأمنه وسيادته سيكون فيصلا لمحاسبة كل من يحاول النيل من تلك الاستحقاقات الوطنية.” وحذّر “مما يروّج له البعض من الذين يعتقدون أن الجبهة الداخلية تتعرض للزعزعة وعدم الاستقرار” متوعّدا هؤلاء بالتعرّض للعقوبات القانونية الرادعة.
وجاء هذا الجزء من البيان بمثابة ردّ بعض الدعوات للتظاهر وحتى التمرّد أَجْمَلَهَا النائب السابق في البرلمان العراقي فائق الشيخ علي بتوجيهه ما سماه “نداء خطيرا لثوار تشرين (أكتوبر 2019)”، قائلا في منشور عبر منصّة إكس “هذه تعليقاتكم وتغريداتكم على صفحتي تطلبون مني إعلان ساعة الصفر والثورة على الميليشيات،” مضيفا “أقول لكم ساعة الصفر في دخولكم إلى المنطقة الخضراء واستلام الحكم في إحدى حالتين، الأولى: مقتل خامنئي، والثانية: سقوط النظام الإيراني..فاستعدوا.”
◙ الشارع العراقي لا يشارك القوى الحاكمة موقفها من الحرب ويرى فيها بارقة أمل في إسقاط النظام الإيراني وكف يده عن العراق
وشدد البيان على أن “الوضع الإقليمي بعد العدوان الإسرائيلي الأخير يحتاج إلى وقفة عراقية موحدة كي ينأى العراق بنفسه عن أيّ مخاطر تستهدف سيادته ومستقبل شعبه.” وأشاد زيدان في المقابل بـ“دور الإعلام الوطني لوقوفه إلى جانب أمن البلد وسيادة القانون من أجل تعزيز روح التضامن والتلاحم بين الشعب العراقي بجميع مكوناته وطوائفه.” وأكد أن “القضاء العراقي سوف لن يتساهل أو يتهاون مع أيّ من الذين يحاولون المساس بأمن العراق وسيادته مهما كانت مسؤوليتهم.”
من جهتهم، أكد وزير الداخلية ورؤساء الأجهزة الأمنية والمؤسسات الإعلامية أن “الجميع سيقفون صفا واحدا لحماية العراق ودعم القضاء في إجراءاته الرادعة بحق من يحاول النيل من البلد وشعبه وزعزعة استقراره وأمنه خلال هذه الظروف المفصلية.”
ولا يشارك رجل الشارع العراقي الطبقة الحاكمة موقفه من الحرب الإسرائيلية – الإيرانية حيث حفلت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام العاملة من خارج العراق بترحيب عراقيين بما يتعرّض له النظام الإيراني من ضغوط معتبرين أن ذلك يحمل بارقة أمل في سقوطه، ما سيعني كف يد إيران عن التدخّل في الشأن الداخلي العراقي وزعزعة استقراره وتعريض شعبه للخطر عبر توريط البلد في صراعات إيرانية بالوكالة وإذكاء النوازع الطائفية بين مكونات مجتمعه.
وتدرك القوى الحاكمة والمنضوي أغلبها ضمن الإطار التنسيقي الجامع لأبرز الأحزاب والفصائل المسلّحة ارتفاع منسوب الحساسية في الشارع العراقي المتحفّز للاحتجاج والتظاهر أكثر من أيّ وقت مضى. واستنادا إلى هذه القراءة لأوضاع الشارع، تَرَاجَعَ الإطار نفسه عن دعوة للتظاهر كان قد وجهها لأنصاره تعبيرا عن مساندته لإيران في حربها ضدّ إسرائيل.
وقال في بيان أصدره إثر اجتماع عقده في وقت سابق وحضره عدد من قادته من بينهم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني “لمناقشة آخر التطورات السياسية والأمنية في البلاد والمنطقة” إنّه يدين ويستنكر بشدّة “السلوك العدواني المتكرر” الذي تنتهجه إسرائيل “لاسيما الاعتداءات الأخيرة التي طالت الجمهورية الإسلامية في إيران” ويدعو “إلى الخروج بتظاهرات منددة بالعدوان وداعمة لصمود وثبات الجمهورية الإسلامية في مواجهته.”
لكنّ تلك التظاهرات لم تجر سوى على نطاق محدود جدّا ومتحكّم فيه بدقة وصرامة من قبل فصائل الحشد الشعبي التي قامت مسبقا بتوجيه دعوات عبر الهواتف النقالة لسكان مدن وسط وجنوب العراق بعدم الخروج للتظاهر والاكتفاء بالتعبير عن تضامنهم مع الإيرانيين خلال إقامة الصلوات والدعاء لهم بالنصر، وذلك لتجنّب حدوث تجمّعات شعبية قد تخرج عن السيطرة وتتحوّل إلى انتفاضة ضد إيران وحلفائها المحليين بدلا من التضامن معها.