ملخص
انبثّ الإبداع الألماني في حضارات الأرض وثقافات الشعوب “فكراً لا يخبو، وفلسفة لا تَشيخ، وفناً لا يَبلى، وأدباً لا يَعتق”. بهذه الحماسة اللغوية، يستجلي كتاب “جماليات الإفصاح الوجداني” ومضات أساسية تشكل من خلال 20 أديباً وفيلسوفاً على مدى 4 قرون، لوحة مهمة من التراث الأدبي والفكري العالمي.
ما يميز كتاب”جماليات الإفصاح الوجداني” (دار النهار 2025) للفيلسوف وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية مشير باسيل عون، الذي جاء على هيئة مقالات، هو المعالجة الفنية الفلسفية للأدباء العشرين الذين عرضنا لبعضهم في مقال سابق، ونستأنف هنا الإطلالة على الالتماعات الأخرى التي أضاءت عتمة الأرواح، وما تزال إشعاعاتها تتواصل، وتثير اهتمامات الباحثين والقراء في سعي موصول لا ضفاف له.
تناولنا، الأسبوع الماضي، القراءة الفلسفية التي قدمها المؤلف لكل من سيلِزيوس، وهردر، غوته، ولِنتس، وشيلر، وهُلدِرلين، ونوڤاليس، وشليغل، وهاينريش هاينه. ونستأنف معاينة الجهود الجمالية التي قدمها كل من غيورغ بُشنر، وشتفان جورج، وريلكه، وتوماس مان، وهرمان هسِّه، وروبرت موزيل، وكافكا، وهرمان بروخ، وغيورغ تراكل، وغُنتر أندرس، وباول تسِلان.
رائد المسرح المأسَوي الألماني
يكاد يغلب على الأدباء العشرين تنوع اهتماماتهم وإبداع أغلبهم في غيرما حقل، حتى لو كانت تلك الحقول “متنافرة” أو ليست وثيقة الصلة ببعضها الآخر، وهذا ملمح يتجلى لنا لدى تتبع المسيرة المعرفية للأديب الألماني غيورغ بُشنر (1813- 1837) الذي يوصف بأنه “رائد المسرح المأسَوي في الأدب الألماني” الذي عاش حياة قصيرة جداً (23 سنة)، لكنه أبدع، وكتب في المسرح والعلوم والسياسة والفلسفة، فضلاً عن عمله طبيباً.
ويَلمح عون أن بُشنر ما برح يعاصرنا ويخاطبنا ويستنهضنا، “إذ إنّ زمنه يشبه زمننا، لاسيّما في أُروبّا التي كانت تتعافى من حروب نابوليون، وتعيد النظر في حدود أوطانها ونفوذ سلاطينها إثر مؤتمر ڤيينا الشهير (1814 – 1815)؛ وكذلك في العالم العربي الذي يختبر مخاضات الولادة العسيرة في مصائر أوطانه”، مضيفاً أنّ “القوى الأُروبية المهيمنة كانت تبحث عصرَذاك عن نظام عالمي جديد يراعي التوازنات الطارئة. أما بُشنر فواجه الواقع الجيوسياسي الناشئ بتصور أدبي يعزّز جمالية التناثر والتبعثر والتموّج”.
وبالانتقال إلى الشاعر الألماني شتفان جورج (1868- 1933): شاعر الرمزية الخلاقة والكلاسيكية المحافظة، نتوقف عند محطات ثرية من حياة هذا الشاعر الثائر الذي تمرد على الحياة في ألمانيا والعيش فيها والكتابة بلغتها، فهجرها إلى بلاد أخرى حتى استقر في فرنسا، وكتب بحقها وحق ناسها شهادة مفعمة بالامتنان.
غير أنّ مشروع شتفان جورج الثقافيّ الأرحب كان يقضي، وفق عون، بأن “ينحت في الشعر الألماني الحديث أشكالاً مبتكرة من الجماليات التعبيرية تجتنب القوافي الرخوة والتسيّب العروضيّ. لكلّ حرف من الحروف مقامُه في معزوفة القصيدة المتناغمة. أما الخلفية الفكرية الناظمة فكانت مقترنة بالسعي إلى مناهضة المذاهب المادية والطبيعانية التي تخنق الحس الرهيف والإفصاح الأدبي الرفيع. لذلك اجتهد جورج في محاربة هذه المذاهب بواسطة مسلك التقشّف الحياتي، ومنهج النظم الشعري النموذجي المثالي الشديد التطلّب”.
ريلكِه يرسم اختبارات الحياة
وبخصوص ريلكه، وتحت عنوان لافت، يتساءل الكتاب: هل يستطيع الشعر أن يُنقذ الإنسان التائه في تحولات الحداثة؟ متبعاً ذلك بأنّ الشاعر النمسوي ريلكِه يرسم اختبارات الحياة بريشة الناسك المعتزل.
يقول الكتاب إنّ راينِر ماريّا ريلكِه ( 1875 – 1926) شاعر وروائي نمسوي “بلغت قصائده أرقى مراتب تعبير الأسلوب الشعري الغنائي في الأدب الألماني المعاصر. تتسم كتاباته بالغموض الخلًّاق، ويغلب على إنشائه طابعُ البحث المضني عن طرائق جديدة من التواصل الإنساني الذي يروم التعبير عن اختبارات السرِّ فائقِ الوصفِ في زمن الاستعصاء الوجداني الأخطر”.
ومن بين المشاغل الأدبية والحياتية العديدة في حياة ريلكه التصورات المتقدمة التي طرحها عن الحداثة وأزمة الإنسان المعاصر. كما أنّ تأملاته في الحب والحياة والموت تبعث على التفكر والصمت. في قصيدة (النمر)، يبيّن ريلكه أنّ “الإنسان كائن القلق المنبعث من اقترانه القدريّ بالكينونة”.
وفي مراسلاته إلى أحد الأصدقاء، باح بسر معاناته، إذ كشف أنّ “الحبّ من أعسر الصناعات الوجودية على الإطلاق. ذلك بأنّ الحب علاقة جذرية، متطلّبة، شمولية، تستنهض الكيان بأسره. في توترات الحب يستسلم الإنسان بكليته للاضطرام المتّقد في أتون الوجدان، فيفقد السيطرة على حركة وعيه، متّكلاً على صدق العاطفة ونبل الهوى”. وعليه “ينعقد بين الحب والشعر تواطؤ مذهل، إذ كلاهما يخضع للتوجسات عينها وللمتطلبات نفسها”.
كيف كتب توماس مان “الجبل السحري”؟
يسير الروائي توماس مان (1875 – 1955) على خطى ريلكه، من حيث “التأمل في انحطاط المجتمع الإنساني وتلاشي القيم وموت الروح”.
ولا يُذكر هذا الأديب الألماني المتحدر من عائلة برجوازية كانت تحترف التجارة، من دون أن تحضر رائعته الأدبية المبهرة “الجبل السحري” التي كتبها “بعد أن عاينه طبيب مستشفى الأمراض الصدرية في مدينة داڤوس بسويسرا، واكتشف أنّ رئتيه في حال سيئة تقتضي العلاج والإقامة الطويلة. ولكنّه آثر العودة إلى مُنشن، وأكبّ على كتابة روايته التي تخيّل فيها البطل هانس كاستورب يختبر المعاينة الطبية عينها، ويقبل أن يُقيم إقامة طويلة دامت سبع سنوات في المستشفى”. تتّصف هذه الرواية بـ “الطابع المأتميّ المأسوي الذي ينعى الحياة الإنسانية، ويتحسر على مصير الحضارة الغربية، ويحتفي بجنازة الإنسان الأخير”.
وبسؤال افتتاحي، يمهد لمعاينة أقاليم التنوع المعرفي الخلاق لدى الأديب الألماني هرمان هسِّه (1877 – 1962): كيف يستنطق الروائي سر الحياة؟ يعلن هسِّه أنّ “كلّ الروايات التي كتبها تكاد تسرد سيرة النفس الإنسانية”. ومن بين هذه الروايات “دِميان” التي يكشف فيها “أحوال النضج التي يختبرها الإنسان في بناء شخصيته منذ زمن الطفولة حتى البلوغ”. وكذلك روايته الشهيرة (سيدارتا) التي “زيّنها بما اختزنه وعيُه من انطباعات وجدانيّة اكتسبها في بيت أهله وأثناء ترحاله الآسيوي”، فضلاً عن روايته الذائعة الصيت (ذئبُ السهول (التي حظّرتها الرقابة النازيّة لاحقًا، ولكنّها انتشرت انتشاراً واسعاً، لاسيّما في الأوساط الأميركية. وتبيّن رواية هسِّه الفلسفية (نارتسيس وغولدموند) كما يقول عون، “الاختلاف التعارضي
كافكا (مؤسسة كافكا )
التكاملي بين الطبيعة الحيوانية والطبيعة الروحية داخل الكائن الإنساني”. في حين تتسم روايته الأخيرة (لعبة لآلئ الزجاج) بالخيال الطوبَوي، حيث “يرسم فيها شخصيّة المعلّم والقائد الروحي يوسف العبد الخادم الذي أتقن فن لعبة الكتل الزجاجية، واضطلع بمسؤوليات التنوير الفكري في مدينة خيالية من القرون الوسيطة”.
إجمالاً، يصر هسِّه، في جميع كتاباته، على “جرأة المغامرة في استجلاء سرّ الحياة”، ومن أحد أقواله يقتطف الكتاب: “على الدروب التي تفتقر إلى المجازفة، لا نقع إلّا على الضعفاء”.
وبتتبع مسارات الأديب النمسوي روبرت موزيل (1880 – 1942) نكتشف أنه استطاع أن يحلّل النفس الإنسانية تحليلاً يشبه “الاستقصاء الكيميائي الذي يترصد أطوار المادة ويتحرى أحوال الكون”. وفي ملمح بارز، يرصد الكتاب أحوال موزيل الذي درس الهندسة، لكنه لم يكسب الشهرة الأدبية في أثناء حياته، ما خلا النجاح الذي حصده كتابه (اضطرابات التلميذ تُرلِس). أمّا سائر كتاباته، “فلم يلتفت إليها أحد أثناء نشرها، لاسيّما أنّ معظمها ظلّ في طور الإنشاء”.
ومن “أمثولات رواية اضطرابات التلميذ تُرلس أنّ الواقع مفطور على اللاعقلانية واللامنطقية، وأنّ معنى العالم غيرُ مستقرّ، يترجّح بين استقطابات لغوية متنافرة. لذلك اختبر صاحبُ الرواية الاضطراب والارتعاش الوجودي، وانغمس في توتّرات الشكّ والإرباك”. وفي وصف شخصية التلميذ المرتبك، يبدو موزيل “خاضعاً لمنطق التشكيك في ظواهر الحياة عينها. وعليه، لم تكن الكتابة في نظره سبيلاً إلى علاج التأزّم الناشب في الواقع”.
كافكا: انتشار واسع رغم صعوبة اللغة
وفي ظل الارتباك والإحساس العبثي بالوجود، تتجسد لدينا شخصية الأديب النمسَوي فرانتس كافكا (1883- 1924 (التي تعبر عن حيرة الإنسان في تجاوز عبثية الحياة. ومع أنّ كتاباته تمتاز “بالكثافة الرمزية والصعوبة الإنشائية”. لكنها “راجت رواجاً منقطعَ النظير بعد وفاته، حتى جعلته من بين أعظم أدباء عصره”، كما يقول الكتاب.
حققت روايات كافكا شهرة واسعة رغم أجوائها السوداوية السوريالية، ومن بين أبرز رواياته انتشاراً (التحوّل( التي “تكشف وجدان الشاب الفقير المعذب غريغوار سامسا، وقد أفاق من حلمه، وهو في هيئة حيوانية متحوّلة تشبه الحشرة المتعددة القوائم. لا عجب، من ثمّ، أن تتّصف هذه الرواية بالفظاعة الوصفية والتصوير الاستفزازي. ولكنها كانت تلائم نفسية الروائي العبثي الذي ما لبث أن أكبّ يصور غرابة الوجود في رواياته الأُخَر، من مثل (في مستعمرة العقاب)”.
ولا بد من الإشارة إلى المذكرات التي تفضح كافكا، “فتُبيّن عمقَ المأساة التي عاناها، إذ اكتشف أنّه غير أهلٍ للسعادة الحقّ يختبرها ويجعل الآخرين يختبرونها. لا ريب في أنّ مثل العجز المزدوج هذا كان ينبثق من اضطراب نفسي تحوَّل بفعل العبقرية الذاتية إلى مصدرٍ جليلٍ من الإلهام الأدبي الراقي”. ويشير عون إلى “ثلاثة اختبارات وجودية مهرت حياة كافكا مهراً مأسَويّاً: الطفولة المحرومة من حنان الأم والخاضعة لقسوة الأب، والاعتلال الجسدي والمرض المبكِّر، وتشوّه معاني الحبّ من جرّاء الانغماس الأعمى في ملذّات الجسد. لا غرابة، والحال هذه، من أن شخصيّته كلّها نشأت ونمت في الاضطراب والخوف والانعطاب النفسي والتحلّل الجوّاني”.
وانتقالاً إلى الروائيّ النمسَوي هرمان بروخ (1886- 1951) يطالعنا عنوان يصفه بـ “رسول الصحوة الروحية في زمن انهيار القيم”. وتتأسس العمارة الأدبية الشاهقة التي بناها بروخ على ثلاث رؤى أساسية تعيّن هوية الإنسان المعاصر التاريخية: “انهيار قيم المجتمع البورجوازي، والقلق المتِافيزيائي الذي يلازم البحث المضطرم عن إنسيّة جديدة، واستفحال خطر الأنظمة الاستبدادية”. وبفضل الإشعاع الأدبي الذي استثارته أعماله الروائية، رشحته الأوساط الأدبية لنيل جائزة نوبل للآداب سنة 1950، قبل أن ينطفئ في 1951.
يقول عون إنّ بروخ ينوّع أساليب الرواية، “فيستخدم المحاكاة الساخرة في الجزء الأول من رواية السائرون نياما، ويَعمد إلى المقال التحليلي في الجزء الثالث من الرواية عينها، ويركن في رواية (موت ڤيرجيل (إلى المبالغة في المدح التوهمّي. لا ريب في أنّ تساكن الأساليب الإنشائية المتنافرة هذه في العمل الأدبي الواحد يُغني التعبير ويُخصب مخيّلة القارئ الحصيف”.
تراكل: الآخرون مصيبة الذات
“شاعرُ الاستحالة التعبيرية والغموض الإلهامي”، بهذا المعنى يجسد الأديب النمسوي غيورغ تراكل (1887 – 1914) مثالَ الشاعر المتوحد الذي يناجي نفسه من غير أن يكترث بوضعية العالم الذي يكتنفه. أيقن تراكل أنّ “الحياة عبثية، وأنّ الآخرين مصيبةُ الذات، وأنّ الوجود مفطور على المظلومية التي تصيب جميع الكائنات”، كما يقول الكتاب. لذا “يخترق اليأس كلمات الشاعر اختراق اللهيب الذي يفني الإحساس الحياتي الزاهي ويمحو آثار الاختبارات التفاؤليّة، وقد بلغ ذروته في معاينة الاحتراب الإفنائيّ بين الناس. تتجسّد الحرب (بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي) في قصائده في رؤى التدمير الشامل، والإتلاف الكياني، والمعاناة المؤلمة المنبعثة من مشاهدة مصائر الجثث المتراكمة في ساحة القتال”.
وفي مصير تراجيدي حارق، مات تراكل من جرّاء إدمانه على المخدرات “التي كانت تساعده في الانعتاق من مشاهد الخراب الكوني. لم تقتله حقنة الكوكايين، على قدر ما أفناه انفجارُ الدماء المستباحة على أرض الوجود العبثي”.
وفي انتقاله إلى الفيلسوف والكاتب الصحافي الألماني -النمسَوي غُنتِر زيغمونت شتِرن المعروف باسم غُنتِر أندِرس ((1902 – 1992 يطل كتاب عون على رحلة معرفية بدأت بحبّ الفكر النقدي الذي أتقن أندرس آلياته وعملياته في مدرسة فرانكفورت النقدية. فقد درس الفلسفة على هوسِّرل وهايدغر، وتزوّج هانّا أرِندت، غير أنّ زواجهما لم يصمد إلّا بضع سنوات، فافترقا بسلام.
ا
مشير عون يكشف ركائزه الفلسفية في “استنطاق الصامت”
مقاربة حديثة وشاملة لفلسفة هايدغر أنجزها مشير عون
وأهم ما يمنح تجربة أندرس فرادتها أنه كان شغوفاً بمسألة تغيير حياة الإنسان وتطوير طاقاته تطويراً يجعله يحيا في وئام إبداعي مع الطبيعة ومع الآخرين. لذلك: “كان يجتهد في تصويب مسار الفلسفة حتى تكف عن الاعتناء النرجسي بذاتها وتنفتح على العالم وهمومه ومشاكله. لا يليق بالفلسفة أن تنطوي على ذاتيتها وتعالج مشاكلها المعرفية الداخلية، بل يجدر بها أن تعاين مآسي الوجود الإنساني، لاسيّما الكوارث والحروب والإبادات على أنواعها”.
الأديب الأخير الذي توقفت عنده رحلة الكتاب، هو الشاعر الروماني -الألماني باول تسِلان (1920 – 1970) الذي يوصف بأنه “من ألمع شعراء أُروبّا الناطقين باللغة الألمانية في القرن العشرين. ومن جراء مواظبته على الكتابة بالألمانية، نشأ في وجدانه تصارع بين ضربَين من الإقامة: الإقامة في الأرض الفرنسية التي لجأ إليها بعد الحرب العالمية الثانية، وإقامة الكلام في تربة اللغة الألمانية”. أنشأ تسِلان قصائد تميزت بـ”غزارة الصوَر التي تحتشد فيها وعمق المعاني التي تزخر بها. ذلك بأنّ صاحبها أراد أن يبلغ بتعابيرها حدودَ التطلّب الأقصى”.
في قصيدة “المشعل” التي كتبها الشاعر في مرحلة الشباب يقول تسِلان: “أيها الرفيق، ارفعِ المشعل، واخطُ خطواً ثابتاً. ليس في البعيد سوى الأسلاك الشائكة. أما الأرض، فوحل كلُّها. أيها الرفيق، لوِّح بالمشعل؛ إنّ مشعلي يدخّن.نفسُك شيء يحتاج إلى النار. أيها الرفيق، اخفِض المشعل. هذا المشعل، أطفئْ نورَه. قلْ لي: الحياة، ما الحياة؟ والموت، ما الموت؟”.