الاصطفافات الخارجية تثير خلافات داخل الإخوان
في ظل التصعيد بين إيران وإسرائيل، لا يقتصر الصراع على الجبهات العسكرية، بل يمتد إلى الفضاء الأيديولوجي والسياسي في الشرق الأوسط. وبينما تراقب الأطراف الإقليمية والدولية تطورات الوضع، تتحرك جماعة الإخوان المسلمين بصمت، مستغلة هذه اللحظة لإعادة بناء موقعها السياسي عبر بوابة “المقاومة الإسلامية”، حتى وإن كان ذلك عبر تحالفات مناقضة لتاريخها المذهبي.
دفاع معلن عن إيران
في خطابهم الإعلامي والسياسي تجاوز قياديو الإخوان ومؤيدوهم مجرد إدانة الهجمات الإسرائيلية، ليصلوا إلى مستوى من الدفاع المكشوف عن النظام الإيراني، رغم ما يقال عن تعقيد العلاقة بين الطرفين. ورغم أن الجماعة تُبقي مسافة علنية من طهران، خاصة في دول مثل مصر وتونس والمغرب حيث تسود الريبة الشعبية تجاه إيران، إلا أن تلك المسافة تتلاشى عند اختبار المواقف الفعلية، لتكشف عن تقارب براغماتي يتجاوز الطائفية.
فكلا الطرفين، الإخوان وطهران، ينطلقان من أُطر الإسلام السياسي، السني منه أو الشيعي، وهو قاسم مشترك يسمح للإخوان بالاستفادة من موقف إيران المناهض لإسرائيل والغرب، مع الإبقاء على هامش من الاستقلال الأيديولوجي في الخطاب العلني.
◄ تحالف الإخوان مع إيران لا يستند إلى قناعة دينية أو التزام حقيقي بمبدأ “المقاومة”، بل إلى خصومة مشتركة مع إسرائيل ومع أنظمة عربية توصف بأنها حليفة للغرب
وفي بيانين منفصلين أدانت جماعة الإخوان في مصر الضربات الإسرائيلية على إيران ووصفتها بأنها “عدوان على الأمة الإسلامية.” وقال المتحدث الرسمي صهيب عبدالمقصود إن الهجمات جزء من “حملة صهيونية تمتد من غزة إلى لبنان وسوريا والآن إيران.” ودعا إلى رد عربي وإسلامي موحد يتجاوز الإدانات الرمزية.
كما بعث القائم بأعمال المرشد العام صلاح عبدالحق رسالة تعزية مباشرة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، واصفًا الضربات بأنها “عقاب لإيران على دعمها للمقاومة الفلسطينية،” ومقدمًا الصراع كجزء من مؤامرة غربية – إسرائيلية ضد الإسلام.
اللافت في كلا البيانين غياب أي إشارة إلى دور إيران في تغذية الصراعات الطائفية أو دعم الميليشيات المسلحة في سوريا والعراق واليمن. وتتحول طهران، فجأة، في خطاب الإخوان إلى “بطل مقاوم” تُطمس خلفه الحقائق المرتبطة بسياسات إيران الإقليمية وهيمنتها وأثرها المدمر في دول عربية عدة.
هذا الخطاب لا يقتصر على مصر. ففي المغرب، عبّر عبدالإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عن دعمه العلني لإيران، قائلاً خلال لقاء جماهيري “ندعم إيران لأنها الوحيدة التي لا تزال تدافع عن فلسطين.” وعلى الرغم من عداء إيران التاريخي للمغرب، أصر بنكيران على أن “القضية الفلسطينية فوق كل الخلافات.”
وفي تونس صرّح رفيق عبدالسلام، وزير الخارجية الأسبق وصهر راشد الغنوشي، قائلاً “ليس لدينا خيار سوى الوقوف مع إيران في وجه الحرب العدوانية التي تشنها دولة الاحتلال.”
رسائل الرجلين تعبّر عن توجّه إستراتيجي أوسع للجماعة: التحالف مع ما يسمّي بـ”محور المقاومة” وتقديم النخب الحاكمة العربية، خصوصًا المطبّعة مع إسرائيل، كنخب عاجزة ومتخاذلة أمام القضايا الكبرى.
التقاطع الخفي
◄ في خطابهم الإعلامي والسياسي تجاوز قياديو الإخوان ومؤيدوهم مجرد إدانة الهجمات الإسرائيلية، ليصلوا إلى مستوى من الدفاع المكشوف عن النظام الإيراني
تحالف الإخوان مع إيران ليس وليد اللحظة. فالعلاقة بين الطرفين تمتد لعقود، وهي أكثر تعقيدًا من كونها تقاطع مصالح عابرا: كما ورد في تقرير للمركز العربي لدراسات التطرف بعنوان “علاقة قديمة: إيران والإخوان المسلمون في مصر”.
منذ ثلاثينات القرن العشرين دعا مؤسس الجماعة حسن البنّا إلى “وحدة سنية – شيعية” في مواجهة الاستعمار والصهيونية، وأقام صلات مع رجال دين إيرانيين، من أبرزهم نواب صفوي، الذي عرّف روح الله الخميني، قائد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بفكر الإخوان.
لاحقًا، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ترجم علي خامنئي شخصيًا أعمال المفكر الإخواني سيد قطب إلى اللغة الفارسية، وعلى رأسها كتاباه “معالم في الطريق” و”هذا الدين”، ليُصبح فكر قطب أحد المرتكزات النظرية للثورة الإسلامية في إيران.
هذا التداخل الأيديولوجي انسحب أيضًا على فصائل المقاومة، مثل حركة الجهاد الإسلامي، والأهم حركة حماس التي تأسست في 1987 كفرع فلسطيني لجماعة الإخوان، وتبنّت منذ بداياتها مزيجًا من الفكر السني الإخواني والدعم الإيراني اللوجستي والمالي. هذا التلاقي لم يكن قائمًا على الانسجام المذهبي، بل على هدف مشترك: مقاومة إسرائيل ومناهضة النفوذ الغربي، ولو تحت شعارات مختلفة.
تحالف الإخوان مع إيران اليوم لا ينبع من قرب مذهبي، بل من حسابات براغماتية بحتة. فمواقف طهران العدائية تجاه إسرائيل ودعمها لحماس وخطابها المناهض للغرب يمنح الإخوان منصة لمهاجمة خصومهم في الداخل والخارج، ويعيد تقديمهم كـ”صوت أصيل للمقاومة الإسلامية.”
في المقابل، هذا التحالف يُستخدم لتشويه حكومات عربية طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وتحويل الصراع إلى اختبار أخلاقي تستغله الجماعة بمهارة.
فراغ فكري
◄ اللافت في كلا البيانين غياب أي إشارة إلى دور إيران في تغذية الصراعات الطائفية أو دعم الميليشيات المسلحة في سوريا والعراق واليمن
لكن هذا التحالف ليس بلا ثمن. فالغالبية الشعبية العربية ما زالت تنظر بعين الشك لطهران، خصوصًا في الدول التي عانت من تدخلاتها الطائفية. وقد يعرّض هذا التقارب الإخوانَ لفقدان دعم المعتدلين وتهم النفاق الأيديولوجي.
في عمق هذه الإستراتيجية يكمن واقع أكثر تعقيدًا: فراغ فكري متنامٍ في العالم العربي. فالثقة في الغرب، كمرجعية للقيم الإنسانيّة العالمية، تآكلت منذ غزو العراق، وانهارت بشكل كبير بعد 7 أكتوبر، حين بدا الدعم الغربي لإسرائيل في حرب غزة أقرب إلى التواطؤ.
هذا الانكشاف أعاد طرح الهوية الإسلامية كإطار سياسي ومجتمعي بديل. الدين في العالم العربي ليس مجرد مظلة روحية، بل هو جزء من تكوين الهوية. وفي ظل تراجع شرعية البدائل العلمانية، تظهر الجماعة كفاعل يسعى لملء هذا الفراغ بسردية “المقاومة الإسلامية”.
لكن من دون مشروع سياسي تعددي وعادل، فإن هذه العودة قد تتحول إلى أداة لاستبعاد الآخر وتعميق الانقسامات في مجتمعات عربية هشّة أصلًا.
تحالف الإخوان مع إيران لا يستند إلى قناعة دينية أو التزام حقيقي بمبدأ “المقاومة”، بل إلى خصومة مشتركة مع إسرائيل ومع أنظمة عربية توصف بأنها حليفة للغرب. وفي حين يوفر هذا التحالف للإخوان زخمًا مؤقتًا، إلا أنه يكشف أيضًا استعداد الجماعة الدائم لاستغلال الأزمات الإقليمية في سبيل البقاء السياسي، بغض النظر عن الكلفة.
وبينما تتساقط القنابل في المنطقة، يبدو أن الجماعة قد حسمت موقفها، ليس من منطلق قناعة، بل بدافع انتهازية صرفة.