تقصّدنا في العنوان أن نركّز على “الشيخ”، بوصفه إحدى الإشكاليات في آلية إعادة بناء أجهزة الأمن الداخلي السورية. فـ”الشيخ”، وهو المصطلح الذي يشير إلى رجل الدين في العُرف العامي السوري، أصبح بوصلة صنع “العقيدة” المؤسساتية لدى منتسبي الأمن العام، وفق المعطيات المتوافرة. لكن، في الوقت نفسه، تجب الإشارة إلى أن معضلات الأمن العام في سوريا لا تقف عند هذه الإشكالية -“الشيخ”- بل تتعداها إلى أبعد من ذلك بكثير، بصورة قد تهدد بانتكاسة مستقبلية لحالة الاستقرار المأمولة في البلاد، بعد 14 عاماً من النزاع بين الحواضن الثائرة والسلطة. نزاع، كانت أجهزة الأمن الداخلي بالذات إحدى أبرز أسباب انفجاره.
على مدار الأسبوع الفائت، تصاعدت الشكاوى من تجاوزات عناصر الأمن العام في سوريا، بصورة ملفتة. ويمكن الإشارة إلى 10 حالات على الأقل، حظيت باهتمام واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، من بينها، تبدو حادثة الصحافي أمجد الساري، الأكثر نموذجية. فالرجل وقف قبالة السفارة الإيرانية في دمشق، والتي من المفترض أنها خالية ومغلقة منذ سقوط النظام، وقرر التقاط صورة لواجهة السفارة. فاستوقفه أحد عناصر الأمن، وطلب تفتيش هاتفه وحذف الصورة. النموذجي في هذه الحادثة، أن الصحافي لم يخف، وتفاعل مع هذا التضييق الأمني بجرأة عالية، خصوصاً مع عدم وجود لافتة تشير إلى منع التصوير. فيما أبدى عناصر الأمن الذين انخرطوا في هذه الحادثة، سلوكيات تشبه إلى حدٍ كبير تلك التي كانوا يُعرفون بها في عهد النظام السابق. فقد تعاملوا بفوقية تخلو من الاحترام لكرامة وحقوق الإنسان. بمنطق صاحب سلطة لا بمنطق مسؤول عن أمن الناس. وبعنجهية تذكرنا كثيراً بمن ثار السوريون ضدهم قبل 14 عاماً. مع فارق إضافي جديد، هو التهديد بـ”الشيخ”، الذي يبدو أنه مسؤول التعبئة العقائدية في الجهاز الأمني. والذي لم ينجح في تهذيب أخلاق عناصر الأمن المنخرطين في هذه الحادثة، بل على العكس، تحوّل إلى أداة استقواء.
الإشارة إلى “الشيخ” حدثت في أكثر من حادثة تتعلق بتجاوزات عناصر الأمن العام. في بعض الحالات، كان دور “الشيخ” إيجابياً، وحاول تقويم سلوكيات عنصر الأمن الذي ارتكب التجاوز. إلا أنه يبقى أن اعتماد مبدأ التعبئة العقائدية يضعف إمكانية خلق مؤسسة أمنية تعكس التنوع الذي يطبع المجتمع السوري، إلا إن كانت السلطات في دمشق تفكر في أمن ذاتي مناطقي. وهذه معضلة أخرى ترسّخ حالة الانكفاء الراهنة بين المكونات السورية عن بعضها.
ومقابل تصاعد الشكاوى من تجاوزات عناصر الأمن، أبدت السلطات تجاوباً، بدا أنه انتقائي ومختلف حسب طبيعة الحادثة. ففي حالة الصحافي أمجد الساري، تدخلت وزارة الإعلام في دعمه. وفي حالة الشاب الذي تعرض لاعتداء من جانب عناصر الأمن، بسبب خلاف على ركن السيارة في مدينة حلب، تم الإعلان عن متابعة القضية من جانب مسؤول الأمن الداخلي هناك. كما تم إيقاف آمر دورية في حمص بسبب تجاوزات مسلكية. لكن في المقابل، في حالة فرض إتاواة من جانب حاجز أمني في منطقة الرحيبة بريف دمشق، كان الرد بوقف الإجراء من دون تسميته بمسماه الحقيقي “إتاوة”، ومن دون معاقبة المسؤولين عن فرضه، وتم اعتباره اجتهاداً فردياً من جانب إحدى البلديات.
كذلك، لم يصدر حتى الآن أي توضيح حول سبب إغلاق فندق أمية الشهير بقلب دمشق، بعد اقتحام عناصر الأمن له، بصورة أثارت الذعر في أوساط مرتاديه، بذريعة “تقديم مشروبات كحولية وأراجيل”، وذلك رغم امتلاك الفندق التراخيص اللازمة لذلك. كما لم نسمع بأي تعليق من جانب السلطات حيال مظاهرة احتجاجية شهدها حي ركن الدين الدمشقي، على خلفية إعادة توظيف عناصر أمنيين سابقين، ضمن جهاز الأمن العام. ووفق المعترضين فإن هؤلاء العناصر ارتبطت أسماؤهم بانتهاكات ضد المدنيين في عهد نظام الأسد.
تصاعدُ الشكاوى، وتفاعل السوريين الكثيف معها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى التظاهر على الأرض، استدعى تصريحاً من المتحدث باسم الداخلية السورية، التي يتبع لها جهاز الأمن العام، أكد فيه أن الوزارة تعمل على ضبط سلوك عناصرها، وأن أي تجاوز من قبل بعض منتسبيها لا يُمثّل المؤسسة أو الدولة، وأنه يتم التعامل مع هذه التجاوزات بكل جدية. الملفت أن تصريح المتحدث باسم الداخلية، شجّع على ثقافة الشكوى عبر القانون على المسيئين من منتسبيها، لكنه طلب الابتعاد عن أساليب التشهير وتعميم الأخطاء. ولا نعرف إن كان قصده من ذلك، تلك الموجات من الانتقاد الحاد التي تعرض لها الأمن العام جراء تداول الشكاوى المصوّرة أو المنشورة عبر وسائل التواصل. لكن يمكن أن نتلمس من تصريح الداخلية، رغبة القائمين عليها بامتصاص أجواء امتعاض تصاعدت جراء تجاوزات مسلكية متفاقمة من جانب عناصر جهاز الأمن العام.
ويبقى السؤال: لماذا تحدث هذه التجاوزات، وبهذه الكثرة؟ إحدى الأجوبة تتعلّق بالحاجة لتوسيع جهاز الأمن العام الذي كانت ترتكز عليه “هيئة تحرير الشام” بعد سقوط النظام، وتوسع مناطق السيطرة بصورة كبيرة. إذ لم يعد جهاز الأمن العام الذي كان نشطاً في إدلب سابقاً، قادراً على ضبط الأمن الداخلي في مناطق السيطرة الجديدة. وهو ما تطلب تنسيب عناصر جدد، بعضهم من العناصر الأمنية السابقة، وبعضهم من حملة السلاح في السنوات الفائتة.
ويمكن أن نذكر، كيف أشاد السكان المحليون في المناطق التي سيطرت عليها “تحرير الشام” بعيد سقوط النظام، بسلوكيات عناصر الأمن العام حينها. لكن اليوم، في المناطق ذاتها، يشتكي الكثيرون من سلوكيات عناصر الجهاز نفسه. ويتعلق ذلك بالعناصر الجديدة المنتسبة للجهاز، والتي لم تحظ بقدر وافٍ من التدقيق بخلفيتها، ومن القولبة القيمية المطلوبة. ويمكن توقع أن كثير من هؤلاء المنتسبين الجدد، ينظر لهذا الانتساب بوصفه مصدر للسلطة والتسلط على الناس، وربما أيضاً للارتزاق، كما كان يحدث في عهد النظام البائد.
ما هي الحلول؟ قد يكون أبرز ما يملكه السوريون لإعادة تعريف علاقتهم مع الجهاز المسؤول عن أمنهم ومع عناصره، هو ما قاموا به خلال الأسبوع الفائت. وهو ما يجب الاستمرار به في الأيام المقبلة. تكثيف الشكاوى ورفض الانصياع والخضوع للتجاوزات وفضحها، وخلق حالة ضغط مستمرة على السلطات المعنية وعلى عناصرها، كي يُعاد تكييفهم مع “سوريا الجديدة”، تلك التي لا يمكن أن تتحمّل تغولاً أمنياً جديداً على شعبها. فذاك المدخل سيشكّل طريقاً سالكاً مباشرة نحو انهيار الاستقرار فيها، من جديد.