ملخص
أن تكون شخصاً آخر غير ذاتك، فرضية تستحضرها مسرحية “سوق الأسئلة” للمخرج السوري محمد حميرة، واقتبسها غزوان البلح من رواية “رصاصة” للكاتب فؤاد حميرة (1965- 2024)، وقام بدور البطولة فيها.
تدور أحداث مسرحية “سوق الأسئلة” بين مستشفى أمراض عقلية ومعتقل ومحكمة ميدانية، وينحو العرض إلى مسرحة السرد الروائي عبر توزيع أدوار صارم لشخصيات تظهر وتغيب، ولا تلبث أن تحاصر بطل المسرحية الذي نراه في صراع مع ذاته المتعددة، فمرة يكون مزارع ليمون في قرية نائية، ومرة هو أستاذ الفلسفة الجامعي الذي يتباهى بآراء برتراند راسل وشوبنهاور وهيغل، وثالثة يكون كاتب سيناريو يسمو فوق جرحه الشخصي، محاولاً التمرد على منشئه الطبقي الفقير الذي جاء منه.
المصح والمحكمة في المسرحية السورية (خدمة الفرقة)
وتبدأ “سوق الأسئلة” بسرد أحداثها منذ اللحظة الأولى التي نطل فيها على حجرة شبه معتمة يتوسطها سرير في مستشفى يقبع عليه فؤاد (غزوان البلح). يتساءل الرجل عن شعوره الشخصي بحركة جسده، وهل وهو واقف أم جالس، وهل هو الذي يتكلم أم أنه شخص آخر سواه؟ أسئلة يوجهها لمرام (سيدرا جباخنجي) امرأة جميلة وممشوقة القوام ذات نبرة صارمة تبدو للوهلة الأولى وكأنها طبيبة نفسية، لكن مع الوقت سنكتشف أنها أحد تمثلات ذاته المتعددة، ففؤاد هذا يبدو لنا امرأة، ثم نكتشف للتو أنه كان مزارع ليمون، وقد فقد صوابه أثناء قطاف المحصول، فدخل في غيبوبة منذ ثلاثة أشهر. في الأقل هذا ما تخبرنا به زوجته ميرنا (نور سليمان)، ويؤكده لنا ولداه (بشر كريم ولين شلغين) وأن اسمه مسعود، ولكن فؤاد يصر على نكران معرفته بهم، ويصر أنه أستاذ الفلسفة المرموق، وأنه لم يرهم في حياته قط.
الأمر الذي يستدعي استعانة العائلة بمشعوذ (نور العلبي) كي يقوم بمساعدة أهل مسعود في تخليصه من شيطان يتلبسه ويجعله يعتقد بأنه فؤاد أستاذ الجامعة، فالرجل برأيهم ممسوس وعليهم إخراج الجن من جسمه النحيل المنهك بعد رقاد دام لأشهر عدة، مما سيجعل فؤاد في حال من الرفض للخرافة، وسيدفعه تالياً إلى الهروب من مستشفى الأمراض العقلية نحو بيته، وهناك سيلتقي بنظير ثالث له، فزوجته سميرة (ندى شعبان) تستغرب اقتحامه للمنزل وادعاءه بأنه زوجها العائد من رحلة علاج طويلة، لكن زوجها -واسمه أيضاً فؤاد- (حسام سالم) سيجابهه بغضب طالباً الشرطة. يحدث هذا عندما يلتقي بطل العرض بذاته الثالثة (فؤاد) ويذكره بغرامه القديم بأكواز الذرة المشوية. يحضر رجل الأمن (محمد حميرة) على عجل، ويسوق فؤاد مجدداً إلى غياهب المعتقل، وهناك نشاهد حفلة تعذيب جديدة، ونسمع لسعات السياط على جسد الرجل الذي لا يعرف لماذا يتعرض لكل هذا التنكيل، بخاصة بعد أن يغرق في سوء فهم البديهيات، فاسمه وعمله وعائلته ليست كما يعرف عن نفسه، وليس من أحد يمد إليه يد العون في لعبة البازل الذهنية هذه.
الزوجة والسكين
ويتابع العرض مجرياته مع تهجم زوجة مسعود على فؤاد حاملة سكيناً في يدها. يحدث ذلك عندما يصر بطل المسرحية على رفض تصديق أنها زوجته، مما يحمل فؤاد لدفعها عن سطوح البيت الذي تسكن فيه، فتموت على الفور. ومثوله أمام هيئة المحكمة وسماع أقوال الشهود والمحلفين سيسوقه مرة أخرى إلى ادعاء الجنون، مما يعيده خلف جدران المصح العقلي، ولا سيما بعد أن يتعرض لفحص نفسي دقيق من قبل الطبيب مجد (جمال زعير). وعلى رغم أن فؤاد يعترف في النهاية بأنه ادعى الجنون للخلاص من الحكم بالإعدام جزاءً على مقتل امرأة تدعي أنها زوجته، فإنه في نهاية المطاف سيتخلى عن صفته كأستاذ جامعي، ويخبر الجميع أنه ليس مزارع ليمون، وكذلك هو ليس أستاذ الفلسفة، بل هو أهم كاتب سيناريو في البلاد، ومن ثم سيقدم على الانتحار بتصويب فوهة مسدس حربي إلى رأسه. رصاصة ستنطلق لتقتله مع كل من مرام وفؤاد (ذاته المتفوقة علمياً واجتماعياً)، في إشارة إلى ذاته المشتتة بين ثلاث شخصيات، مما يوضح فقدان البطل لوحدة الأنا، فهو يعتقد بأن كل معرفة خارج عقله هي غير مؤكدة، والعالم الخارجي والعقول الأخرى غير موجودة، بل إنها لا توجد البتة خارج وعيه وصورته عن نفسه.
في هذا السياق الكثيف للأحداث تكشف “سوق الأسئلة” (مديرية المسارح والموسيقى) تباعاً عن بنية هلامية للواقع الذي تحيا فيه شخصية بذات مشتتة، وتندلع عشرات الأسئلة في وجه مخرج العرض الذي جازف في مسرحة رواية ذات طابع نفسي مركب، وتحتاج إلى احترافية في الأداء الذي تباين بين ممثل وآخر، لكن، ومع كل هذا، استطاع الفنان محمد حميرة تمرير لعبته ببراعة عبر استعانته بخيال الظل لتنفيذ مشاهد التعذيب في مقر الاستخبارات، ومشاهد أخرى جسدت موت الزوجة الثانية وسقوطها صريعة عن سطوح البيت. ومنابع الإضاءة (تصميم إياد عساودة) أيضاً كانت موظفة هي الأخرى للسيطرة على فضاء مسرح القباني، لكنها لم تعزل مناظر العرض عن بعضها كما يجب، مما يمكن ملاحظته في تداخل فضاء القرية ومجلسها العربي مع كل من فضاءات البيت والمعتقل والمصح العقلي.
مسرحية “الفندق” في منطقة رمادية بين الحياة والموت
الفرنسيون يحتفون بمسرحية وجدي معوض الممنوعة في لبنان
والمناورة الأبقى في “سوق الأسئلة” هي في النص الذي حاول إيجاد مستويات عدة لقراءة العرض، ومهد للعبة متداخلة وحمّالة أوجه، إلا أن هذه اللعبة بدت في جوانب منها ذهنية صرفة، وابتعدت من الشرط الدرامي، مما أضعف من إيقاع العرض. مغامرة تحسب للمخرج حميرة في محاولته مراراً ضبط إيقاع الأحداث ومفصلتها بمقاطع ومؤثرات موسيقية (جمال الشرع) أسهمت في الخروج من رتابة حركة بعض الممثلين على الخشبة وتوحيد التوجه العام لأدائهم.
وبدا واضحاً أن “سوق الأسئلة” تعود من جديد للبحث بجدية في أزمة الهوية السورية، وكيف انعكس شتات الفرد على شتات مجتمعات بأكملها. من هنا تغلبت مقولة العرض وسؤال “ماذا سنقول” على سؤال “كيف سنقول”؟ وهو السؤال، كما بات معروفاً، المتعلق بالمعالجة الفنية للقصة، مما استدعى الدخول في حوارات ذات طابع تقريري مباشر جعلت مضمون العرض يعلو على شكله الفني، بالتالي يتحول في مواضع عدة إلى نوع من الصراخ واستجداء التعاطف، في وقت كان من الممكن تحييد سطوة الروائي والأدبي لمصلحة إمكان تطوير الشخصيات الثانوية والمساندة للعرض، مثلها كمثل الشخصية الرئيسة التي بدت أكثر عمقاً وتعقيداً.