يُعدّ فيودور دوستويفسكي أحد أبرز الأسماء في تاريخ الأدب العالمي، فهو ليس مجرد روائي، بل فيلسوف إنساني وعالم نفس بالفطرة، يكتب بشغف المحترق وأسئلة القلق البشري. من بين رواياته التي تحفر عميقًا في طبقات الروح البشرية، تبرز رواية “المقامر” كعمل فريد في نوعه، ليس فقط بسبب موضوعه الجريء، بل لطريقة كتابته وظروفها، ولمدى الصدق المؤلم الذي يتسلل من بين سطورها. دوستويفسكي كتب هذه الرواية تحت ضغط قاسٍ، في أقل من شهر، مهددًا بفقدان حقوق نشر أعماله المستقبلية بسبب الديون الثقيلة. كان هو نفسه ضحية لإدمان القمار، وتجربته الشخصية تظهر بوضوح في تفاصيل العمل، مما يجعل من “المقامر” ليس فقط رواية أدبية، بل شهادة حيّة ومؤلمة على انهيار الإنسان من الداخل، حين تسيطر عليه نوازعه وضعفه.
الرواية تتابع قصة أليكسي إيفانوفيتش، الشاب الروسي الذي يعمل كمعلم لدى عائلة روسية نبيلة مفلسة تقيم في مدينة أوروبية متخيلة تُدعى “رووليتنبورغ”. هناك، في هذه المدينة التي تتأرجح بين البريق والفساد، يعيش أليكسي تجربة حادة من الحب غير المتكافئ، والإدمان المدمر، والانهيار الأخلاقي. يقع في حب بولينا، ابنة أخت الجنرال، حبًا عنيفًا غير متزن، يتحول بسرعة إلى خضوع عاطفي شبه كامل. بولينا، في المقابل، تتلاعب به، تستغله، وتظل دائمًا بعيدة المنال، مما يضيف إلى توتر الرواية بعدًا نفسيًا معقدًا.
ما يميز “المقامر” هو تصويرها الدقيق لحالة الإدمان، ليس فقط على المقامرة، بل على العلاقات المؤذية، على الأمل الكاذب، وعلى فكرة الفوز الذي لا يتحقق. القمار هنا ليس لعبة حظ، بل رمز لرغبة الإنسان في تحدي القدر، في السيطرة على مصيره، حتى وإن كان ذلك على حساب عقله وقيمته الإنسانية. دوستويفسكي يجعلنا نعيش التجربة من الداخل، نشعر بتوتر أليكسي، بهوسه، بارتعاش يده وهو يضع الرهان، بفرحه المَرَضي حين يربح، وانهياره الكلي حين يخسر.
“القمار هنا ليس لعبة حظ، بل رمز لرغبة الإنسان في تحدي القدر، في السيطرة على مصيره، حتى وإن كان ذلك على حساب عقله وقيمته الإنسانية”
في قلب الرواية تظهر شخصية الجدة، امرأة غنية وعنيفة الطباع، تفاجئ الجميع بحضورها إلى المدينة، وتقوم بنفسها بالمقامرة، فتخسر ثروتها بدون أسف، مما يقلب مصير العائلة رأسًا على عقب. الجدة ليست مجرد عنصر ساخر في الرواية، بل تجسيد حاد لعبثية الطموح، لهشاشة الثروة، ولغرابة السلوك البشري حين يُترك بلا رادع.
أسلوب دوستويفسكي هنا متوتر، مكثف، مليء بالحوار الداخلي، يجسد بدقة ارتباك البطل، وتناقضاته، وتردّده بين الرغبة في التمرد والخضوع الكامل. لا يمنحك الراحة، بل يضعك وجهًا لوجه مع الصراع النفسي كما هو، غير مزين ولا مخفف. تقرأ الرواية وتشعر كأنك جالس داخل عقل أليكسي، ترى من عينيه، تسمع صوته الداخلي المتعب، وتشارك في رحلته التي لا تقود إلا إلى هاوية النفس.
“المقامر” قصيرة مقارنة ببقية أعمال دوستويفسكي، لكنها مشبعة بالتجربة والفكرة، ومثالية لمن يريد أن يتذوق عالم هذا الكاتب من دون الغوص مباشرة في أعماله الطويلة والمعقدة. ومع ذلك، فهي لا تقل تأثيرًا أو عمقًا، بل تحمل في طياتها العديد من الأسئلة الكبرى: هل الإنسان سيد قراراته حقًا؟ ما الذي يدفعنا للتمسك بما يؤذينا؟ وهل الحب وحده قادر على إنقاذنا، أم أنه أحيانًا سبب سقوطنا؟
هذه الرواية ليست فقط عن القمار، بل عن الإنسان في لحظاته الأضعف، حين يبحث عن ذاته في لعبة، أو في علاقة، أو في وهم. إنها رواية عن الألم الذي نصنعه بأنفسنا، عن المعارك الصغيرة التي نخوضها يوميًا ونحن نحاول أن نثبت لأنفسنا أننا ما زلنا نتحكم بمصيرنا، حتى لو كان ذلك وهمًا.
في النهاية، “المقامر” ليست عملًا أدبيًا تقرأه ثم تضعه على الرف، بل تجربة إنسانية تعيشها، تترك فيك أثرًا طويل الأمد. وإذا كنت ممن يظنون أن الإنسان عقل ومنطق، فإن دوستويفسكي هنا سيذكّرك بأنك أولًا وقبل كل شيء، كائن هش، مدفوع بالشغف، يتخبط في خياراته، وينجرف أحيانًا نحو هلاكه بوعي تام. ولهذا السبب بالذات، يجب أن تُقرأ هذه الرواية.
* كاتبة روائية من تونس.