–
أشعل العدوان الإسرائيلي جدلاً واسعاً في الفضاء السياسي العربي عن طبيعة الموقف من السياسة الإيرانية في المنطقة، التي تختلف من دولة إلى أخرى. وقد وصلت الخلافات إلى الفصيل السياسي الواحد، فأصدرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، جناح لندن التابع لصلاح عبد الحقّ، بياناً تحت عنوان “رسالة إلى المرشد الأعلى للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة”، أبدت فيه دعم الجماعة الكامل لإيران في مواجهة العدوان الإسرائيلي الغاشم، وقال البيان “إن العدوان الإسرائيلي على إيران هو مرحلة جديدة من العدوان على فلسطين، حيث تحرّك حكومة الاحتلال دوافع الانتقام من جرّاء الدعم الذي تقدّمه الجمهوريّة الإسلاميّة للمقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى الدوافع الاستراتيجية الأخرى التي تتمثّل في سعي كيان الاحتلال إلى فرض هيمنته على المنطقة، من خلال إضعاف مراكز القوة فيها”. في المقابل، أثار البيان حفيظة جماعة الإخوان المسلمين في سورية، التي أعلنت في بيان رسمي تبرّؤها من بيان الجماعة الأمّ، وشدّدت على أنها تتبرّأ من أيّ بيان يصدر باسم جماعة الإخوان المسلمين “يوالي القَتَلة”، و”ينتصر للمجرمين”، في إشارة صريحة إلى حكّام إيران، مؤكّدةً أن إيران وإسرائيل “طرفان في مشروع يهدف إلى تبديل دين الأمّة وإذلال شعوبها”. وأضاف البيان أن الجماعة في سورية “تقف على مسافة واحدة من جميع مشاريع الهيمنة والنفوذ التي دمّرت العراق وسورية ولبنان، وترفض الانحياز إلى أيّ طرف يسعى إلى تشويه الإسلام أو المتاجرة به، ولا يخدعها مجرم ماكر فيهم”.
المُتيقَّن منه أن إيران فوجئت تماماً بما حدث في “7 أكتوبر”، رغم الترحيب العلني الذي ظهر في التصريحات الإيرانية
يعكس هذا المشهد تناقضاً وتضارباً شديدين تجاه موقف الجماعة من السياسة الإيرانيّة، كما يعكس مدى ضعف ما يُسمّى “التنظيم العالمي” للجماعة وهشاشته، ومن المُفترَض أنه يرسم الخطّ الرئيس لسياسة الجماعة الخارجيّة، ويحدّد مواقفها من الصراعات الإقليمية والدولية، والذي يهدف إلى توحيد مواقف الفروع الإخوانية، وتذويب الفوارق القُطرية في كيان واحد، بهدف الوصول إلى “أستاذية العالم”، لجماعة تستهدف عودة الفردوس المفقود لدولة الخلافة الإمبراطورية، التي سقطت منذ أكثر من قرن. لكن ثمّة نقطة تستحقّ التوقّف عندها، وردت في بيان الجماعة الأمّ، عن دعم إيران المقاومة الفلسطينية، وأن العدوان الإسرائيلي عليها يأتي على خلفية انتقامية من الدعم الإيراني للقضيّة الفلسطينيّة، فقد كشفت “طوفان الأقصى”، في 7 أكتوبر (2023)، وما تبعها من الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزّة، المستمرّة، مواقف أطراف إقليمية عديدة، حاولت اغتنام الحدث الكبير الذي كان أشبه بزلزال استراتيجي هائل، ما زالت آثاره تتوالى، بغرض تحقيق مصالحها الخاصّة، أو تعظيم مكاسبها، كان منها ما يستحقّ الالتفات. ففي نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023، زعم المُتحدّث باسم الحرس الثوري الإيراني، العميد رمضان شريف، أن “عمليّة طوفان الأقصى كانت إحدى العمليات الانتقامية لمحور المقاومة من إسرائيل”، بعد مقتل القائد السابق لفيلق القدس، قاسم سليماني، بضربة جوية أميركية في العراق مطلع عام 2020، مُحذّراً إسرائيل من ردّ مماثل على مقتل العميد رضي موسوي، في غارة إسرائيليّة على دمشق، قبل تصريحات شريف بأيام. على الفور، نفت حركة حماس في بيانٍ رسميٍّ المزاعم الإيرانية إجمالاً وتفصيلاً، وأكّدت “أن كلّ أعمال المقاومة الفلسطينية تأتي ردّاً على وجود الاحتلال وعدوانه المتواصل على شعبنا ومقدّساتنا”، وأن الحركة أوضحت مراراً دوافع عملية طوفان الأقصى، مما دفع رمضان شريف إلى التراجع عن تصريحاته، زاعماً إنه أُسيء فهمها.
وجاءت تصريحات شريف في سياق المحاولات الإيرانية (التي لم تنقطع) للاستثمار في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، ومحاولة توظيف القضية الفلسطينية لتحسين موقفها التفاوضي مع القوى الغربية، من أجل التخديم على أجندتها الإقليمية والدولية، عبر تصوير أنها المحرّك الأساس للمقاومة في المنطقة، والفاعل الأول الذي يملك كلّ الخيوط في يديه، بيْدَ أنه وجّه إساءة بالغة للمقاومة الفلسطينية، عندما صوّرها مجرّد ذراع للسياسة الإيرانية، تتحرّك وفق رغباتها في تصفية حساباتها وتوجهاتها “الانتقامية”. وتتعيّن الإشارة هنا إلى أن العلاقة بين “حماس” وإيران ذات طابعٍ مُعقّد، إذ تحرص الحركة على انتهاج خطّ استقلالي يراعي المصلحة الفلسطينيّة في المقام الأوّل، وعدم الارتهان لتقلّبات السياسة الإيرانية، مع وجود تباينات في هذا الشأن داخل الحركة بين قيادات الداخل والخارج، بعكس حركة الجهاد التي تُعتبر أكثر ارتباطاً بإيران.
على صعيد آخر، فإن المُتيقَّن منه أن إيران فوجئت تماماً بما حدث في “7 أكتوبر”، رغم الترحيب العلني الذي ظهر في التصريحات الإيرانية، بيْد أن موجة من الذعر تدفّقت في أوصال النظام الإيراني خشية تحمّل مغبّة العواقب، بعد التصوّر الذي راج في الفضاءَين الإسرائيلي والأميركي، الذي رأى أن ما حدث بمثابة “11 سبتمبر” جديد، ما دفع المرشد الأعلى علي خامنئي إلى الظهور بنفسه، والإدلاء بتصريحات علنية تنفي تماماً أيَّ مشاركة إيرانية في عملية طوفان الأقصى. وأكّد خامنئي بعدها بأيام، في كلمة له (في 11 أكتوبر 2023) في حفل تخريج طلّاب عسكريين في طهران، أن “من يقول إن الملحمة الأخيرة كانت عمل غير الفلسطينيين، فحساباته خاطئة”، مُشيداً بمُخطِّطي الهجوم ومُنفّذيه، قائلاً: “نُقبّل جباه وسواعد الشباب الفلسطينيين، الذين يُخطّطون ويُنفّذون”، مؤكّداً دعم مقاومة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
تناقض وتضارب شديدان تجاه موقف جماعة الإخوان من السياسة الإيرانيّة، يعكسان مدى ضعف ما يُسمّى “التنظيم العالمي” للجماعة وهشاشته
غنيٌّ عن البيان أن “حماس” ذات جذور إخوانية في نشأتها وتأسيسها، بيْدَ أنها تتحرّك وفق المصلحة الوطنية الفلسطينية بغضّ النظر عن موقف الجماعة الأمّ في مصر، أو الفروع الإخوانية الأخرى، ومن الخطأ المنهجي النظر إلى “حماس” ذراعاً إيرانية تتحرّك وفق توجّهات السياسة الإيرانية، حتى إن كانت مدعومة منها، فهذا لم يأتِ إلا بعدما فقدت الأمل في أيّ دعم من العرب أصحاب المنطقة الأصليين، الذين غابوا عن المشاركة أو التأثير في مجريات صراعٍ مُحتدمٍ يجري في أرضهم، من شأنه تحديد مستقبل المنطقة لعقود مقبلة، واكتفوا بالجلوس صامتين على مقاعد المُتفرّجين، أو في أحسن الأحوال بإطلاق الصيحات والهتافات على طريقة المُشجّعين الرياضيين، في مشهد يعكس مدى البؤس والإفلاس، الذي وصل إليه ما يُسمّى النظام الإقليمي العربي.